لم يشبع العود نهم نازك الملائكة، فخاضت غمار تجربة أجرأ حين انخرطت في السنة نفسها في فرع التمثيل في المعهد نفسه ،فهي واحدة من أقدم تلميذات الرائد (حقي الشبلي) ،" كان عاملان يستحثان نازك إلى دخول التمثيل :الأول يتمثل في رغبتها أن تحسّن طريقة إلقائها لق
لم يشبع العود نهم نازك الملائكة، فخاضت غمار تجربة أجرأ حين انخرطت في السنة نفسها في فرع التمثيل في المعهد نفسه ،فهي واحدة من أقدم تلميذات الرائد (حقي الشبلي) ،" كان عاملان يستحثان نازك إلى دخول التمثيل :الأول يتمثل في رغبتها أن تحسّن طريقة إلقائها لقصائدها ،بحيث يكون لها وقع مؤثر في السامعين ....تلوّن نبرة صوتها مع تغيّر الإيقاع والمعنى .....والعامل الثاني يتمثل في توقها لدراسة مفردات منهج قسم التمثيل .... أرادت أن تدرس أعمال كبار المسرحيين الإغريق ،والاطلاع على الأدب اليوناني بشكل مفصّل"، وبذ لتْ جهوداً لاستحصال موافقة إدارة الجامعة على السماح لها بحضور دروس اللغة اللاتينية في قسم اللغة الانكليزية ،فاستطاعت تطوير مهاراتها في القراءة والكتاب بها ،تتحدث عن هذه التجربة باعتزاز " وقد أعجبتٌ أشد الإعجاب بشعر الشاعر اللاتيني (كاتولوس).
وحفظتٌ مجموعة من القصائد له ،ما زلتُ أترنّم بها أحياناً في وحدتي ،فأجد سعادة بالغة في ترديدها ،والواقع أني أجد في اللغة اللاتينية نفسها سحراً يجتذب كياني كلّه "، ولم يقف طموحها عند هذا الحدّ بل عملت على تطوير كفاءتها باللغة الانكليزية ،التي اهتمت بتعلّمها منذ المرحلة الثانوية ،وأتقنتها فيما بعد فصارت تقرأ شكسبير وبايرن وشللي وكيتس بلغتهم ،واستطاعت انتزاع النجاح بتفوق في دورة لدراسة الشعر الانكليزي في المعهد الثقافيّ البيرطانيّ عام 1950م.
وتأبى الريادة أن تفارقها حتى في غير ميدان الشعر ،فهي أول طالبة قبلتْ في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1950م،إذ كانت الجامعة مقصورة على الرجال ،مما صعّد من حجم مسؤولياتها بإزاء التحديات الثقافية والعلمية التي واجهتها في بيئة جديدة عليها،وهنا بالضبط تمنحنا نازك درساً مهماً آخر،أعني قدرتها على الموازنة الدقيقة الصعبة بين الإلتزام بالانتماء إلى الجذور الفكرية والاجتماعية العربية التي ظلت تتمسك بها حتى آخر لحظة من حياتها ،وبين رحابة الفكر الإنساني الذي نهلت من مصادره الغربية ،من غيرسقوط في وهدة التغريب والمسخ.
(3)
ثالث هذا الثالوث وأقربه إلى نفسي الراحلة ( د.حياة شرارة) ، التي تنماز عن سواها بصلابة الموقف الأيديولوجي حيث الفكر التقدميّ عقيدة وسلوك واستيعاب وتمثل ، كانتْ وراء ثراء عطائها ، وتنوع نتاجها بين ترجمة عيون الأدب الروسيّ من جهة ،وبين التأليف والتحقيق ، وكتابة المقالة الأدبية الممهورة بخصوصية أسلوبها من جهة أخرى ، أزعم أنّ كل كتاب من قائمة مؤلفاتها علامة مميزة ،سدت بها نقصاً ما في المكتبة العربية والعراقية ،وهل بإمكان المتتبع المتأني تجاهل أمثال : (تولستوي فناناً )،1970،1979،أو (صفحات من حياة نازك الملائكة ) ،1994م أو (مذكرات صياد ) ،1984م ،أو (الأفكار والأسلوب ) ،1986م،أو (مسرحيات بوشكين ) ،1986م ، أو (المتنبي بين البطولة والاغتراب) جمع وتحقيق ، أوسلسلة مقالاتها (تلك أيام خلت ) ،أورواية (إذا الأيام أغسقت) ،2000م ،وعشرات المقالات العلمية عن نقد الترجمة وشؤونها وشجونها المنشورة في الدوريات العراقية والعربية ؟
وقوة الالتزام الفكريّ هي التي منحتها القدرة على تجاوز المثبطات حولها ،ومنها الظروف الأسرية القاهرة التي عاشتها في ظل المطاردات والملاحقات والسجون والفصل من العمل التي طالتها وطالت أفراد أسرتها ،ثم المراقبة والمضايقات التي تعرضت لها في الجامعة ،ومع ذلك ظلت صلبة لم تنكسر ،واستطاعت تذليل كل عوامل اليأس وتحويلها إلى دواع مفجرة لطاقات الإبداع الكامنة ،فهي تعيش صراعاً ضارياً من أجل أن لاتنقطع عن القراءة والكتابة ،لأنّ الانقطاع يعني عندها الاستسلام والموت ،كتبتْ في رسالة شخصية بتاريخ 11/3/1980 " لا أجد متعة بالحديث مع الناس ،ولا أحبّ الزيارات والاختلاط لشعوري بنوع من الغربة معهم ،فيجب مجاملتهم في أحاديثهم التي تدور جلّها حول الأكل والأطفال وقضايا البيت ولاتخرج عن هذا الإطار الضيق ،ومن هنا أتى تفكيري بترجمة (تشيخوف) ،لأنه يصوّر هذه الحياة اليومية المألوفة الباهتة التي تطفئ حتى القلوب المتوقدة ،وتبعث الرماد فيها مع مرور الزمن ....فأنا أشعر بالغربة الفكرية والروحية عن الآخرين ،والعلاقات كلها سطحية عابرة مع الناس ،إنها أشبه بعلاقتي مع المارة الذين لاأعرفهم ،أما أعماق النفس فتحيا بوحدة وعزلة محتفظة بحرارتها وتوقها وأمانيها ".
وقوة نزعتها التقدمية جعلتها في مراجعة مستمرة مع نفسها للمفاهيم والنصوص والكتب التي سبقت أن قرأتها ،لأنّ سيرورة الزمن ومستجدات الحياة والمعارف تجعل القراءة مختلفة في كلّ مرحلة ،الزمن يتجدد ،فتتجدد الرؤى والآراء ،ولذلك أعادت النظرفي بعض قناعاتها في أكثر من موقف وحالة ،مثلاً كان (طه حسين ) أحد ركائز ثقافتها ،تنظر إلى تجربته بانبهار واعجاب كبيرين ، حتى إنها جعلته مقياساً لقراءة معاصريه ،فقرأت العقاد والمازني وغيرهما بالموازنة مع طه حسين وتوجهاته وميوله،وقد أحست في مرحلة متأخرة بالخلل المنهجيّ في ذلك،فأعادت قراءة العقاد ،وأعادت فحص نتاجه ثانية ، بنظرة موضوعية ، وبمعزل عن الموجهات والإسقاطات السابقة ، ولم تجد أدنى حرج في الاعتراف :" الآن أقرؤه برؤيا جديدة ،واستكشاف جديد لأبعاد تجربته الرائدة ،تعجبني فيه النظرة الشمولية إلى أمور الحياة ،لقد نشأنا في جو ينظر نظرة أحادية الجانب إلى الأمور ،بينما الأبيض والأسود لا يشكلان قطبي الحياة المتنافرين ،فالحياة ونفسية الإنسان وفكره تنطوي على بنية تركيبية متنافرة ومتجانسة ،تجمع مختلف الأضداد ،وأشعر أنّه فاتني الكثير وضيّعت سنوات طويلة من عمري وأنا أفهم هذه القضايا نظريّاً ولكنني لا أفهمها عملياً ....على كل حال ثمة مثل روسي يقول : (أنْ تدرك الأمر متأخّراً أفضل من أن لا تدركه ألبتة )" . ولئن استطاعت في مرحلة معينة من حياتها تحقيق المصالحة الذهبية بين متطلبات الانتماء الحزبيّ ومتطلباتها الذاتية التواقة نحو فرادة الإبداع وخصوصية الموقف ، فإنها لم تتردّد حين تواجه الطرفان وتقاطعا في الوسيلة والغاية أن تنتصر للطرف الثاني، وتتخلى عن الأول دون أن تنقطع في الحقيقة عن الحاضنة الفكرية التي تحتويه،فقد أجرت تعديلاً طفيفاً في طبيعة المسار ،من التزام حزبي ضيّق منصاع إلىشروط وتعليمات فوقية ضاغطة على قناعاتها الشخصية وعالمها الداخليّ المشحون بأسئلة الإبداع ،إلى انتماء فكريّ منطلق نحو رحابة الفكر وطزاجة عالمه الجدليّ الموّار بالأضداد وصراع المؤتلف والمختلف .