هناك تداخل يصعب الفصل فيه بين علاقة الشعر بالتاريخ، وعلاقته بالسياسة. ولذلك سأراوح بينهما. ولن ألتفت كثيراً لموضوعة المفاضلة بين الشعر وبين التاريخ، تلك التي وضع أرسطو أسسها الأولى. ففي كتابه الشهير "فن الشعر" Poetics، يفضل الشعر على التاريخ: "وظاهر ما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الاحتمال أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تُصاغ أقوال هيرودوتس في أوزان فتظل تاريخاً سواء وُزنت أو لم توزن" بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، إلى حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. وأعني بالكلي ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله على مقتضى الاحتمال أو الضرورة."
الأسطورة أحيانا تتعين بزبدة التاريخ وحكمته. وتفلت هذه الزبدة والحكمة لتستقل عن التتابع الأبله للتاريخ، عبر عواطف الشاعر وعقله ورؤاه. الشاعر لا يرى التاريخ بعين المؤرخ، أو العقائدي. فالمؤرخ يُحقّق بشأن مصداقية الأحداث، ويسعى لتنظيمها وفق تتابع الزمان. والعقائدي يُفرد منها لحمةً على هواه، ويُغرقها في عواطف جاهزة لانتصاره أو عدائيته. في حين يميل الشاعر إلى إشاعة الفوضى فيه، وخلخلة التتابع والمنطق، من أجل استخلاص ما يراه رؤية البصيرة الداخلية.
في الثقافة الشعرية العربية لم يحتل هذا الموضوع مكانةً إلا عند الفلاسفة القدامى الذين ترجموا أرسطو، أو همّشوا على كتابه "فن الشعر". إنهم، في حقيقة الأمر، أشبعوا جوانب عديدة في الشعر درساً، من زاوية النظر الفلسفية. ولعل مصطلح "المتخيّلة"، الذي اتفقوا على استخدامه، أقرب المفاهيم النقدية إلى معنى حرية الشاعر في التعامل مع التاريخ. انطلاقاً من تعبير أرسطو: "وظاهر ما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الاحتمال." على أن العلاقة بينهم وبين الفيلسوف اليوناني ظلت ملتبسة. في حين نأى المحدثون والمعاصرون من الشعراء ونقاد الشعر بأنفسهم عن أن يتعاملوا مع هذا الموضوع كمأزق شخصي. بل هم وضعوه داخل دائرة نظرية ذهنية، وسطّحوا حولها الإجابات النظرية هي الأخرى. فالشعر لديهم يتعارض مع السياسة، ولا شأن له بالأخلاق، ولا يعكس أحداث التاريخ كمرآة، أو العكس بالتتابع. على أن السياسة لديهم لا تعني العلاقة بالأفكار. والأخلاق تختلط مع معنى العقيدة والمبدأ، أو معنى العرف والعادة. والتاريخ يقتصر على أحداث الوطن السياسية! ولذلك تجد الهوة التي تفصل هموم الشاعر العالمي، وهموم ناقده عن مشاغل الشاعر العربي وناقده بسعة المحيط.
والعلة كامنة بوضوح، على الأقل فيما أرى شخصياً، في أن هذا الناقد العربي لا تعرض له هذه المواقف النقدية النظرية إلا عبر الكتب. إنه يقرأها فتستهويه لعلة ما، فيلتزمها محجةً، وعقيدةً أحياناً، ويحاولُ ان يُنضجها في عقله، داخل دائرة التجريد الذهني. ولا تشكل في مسار حياته الفعلية، كمثقف، أية رافد يختلط مع روافد حياته الروحية والعقلية والعاطفية الخاصة. بتعبير آخر أن هذه الحياة الشخصية لا تخوض معترك الأفكار، مدفوعة بالبحث عن جادة سليمة لمأزقه الروحي، والعقلي.
حمَلةُ الأفكار المغيّرة في الغرب جميعاً خبروا هذه التجربة، أو المأزق ذا السمة الشخصية. لم يكن روسو، هيوم، كانتْ، شوبنهاور، نيتشة، وردزورث، آرنولد، ريلكة، توماس مان، أليوت...الخ إلا مشاعل يطلعُ لهيبها من أتون حيرة، ومأزق شخصي خاص. البحث داخل حقل المعرفة إنما هو بحث لا يتجرد من حرارة دورتهم الدموية.
كم من ناقد "واقعي اشتراكي"، "بنيوي"، "تفكيكي"، "نقدي ثقافي"، "لساني" عربي يرشح حماسةً، داخل الرطانة اللفظية، بتدفق يشفُّ عن مأزق شخصي، كتدفق ومأزق أبي حيان التوحيدي مثلاً؟
هامش عن الشعر والتاريخ
[post-views]
نشر في: 20 سبتمبر, 2015: 09:01 م