سحر طهلم تعرف تلك الصبية الصغيرة أن القدر كان يخبئ لها كل تلك التناقضات التي يمكن أن يعيشها إنسان على هذه البسيطة. صحيح أن حياة كل منا مليئة بالحلو والمر، النجاح والفشل والأبيض والأسود وما بينهما، إلا أن أسمهان عاشت كل حلاوة الدنيا ومرارتها وكأنها عرفت في قرارة نفسها أن عمرها قصير (1912 ـ 1944).
ستون سنة مضت على غياب صاحبة "ليالي الأنس"، و"فرق ما بينّا" و "يا ليالي البشر" و"رجعتلك يا حبيبي"، و"أهوى"، و"ليت للبرّاق عينا" و"أنا اللي أستاهل" وما تزال دموع حجاج بيت الله، تنهمر في كل عام مع أغنيتها الأقرب إلى الدعاء "عليك صلاة الله وسلامه" بنبرة الخنوع والتوبة، باعثة الرهبة، والحنين إلى مرقد النبي.الصوت الحزين لما يزل يرن في الأذهان كلما استحضرنا صورتها أو سيرتها أو مشهداً من أفلامها، إذ حيّر النقاد والموسيقيين والملحنين والمتذوقين والعشاق على حدّ سواء.أسمهان، النبرة الشجية في عالم الأغنية العربية، والشخصية الغامضة الواضحة معاً. عاشقة الحياة والمال، البهجة والحزن، لطالما دفعتها مشاعر مجهولة، قوية لا تقاوَم، ولهفة إلى كل تجربة جديدة ومغامرة، مهما ذهبت بها، بعيداً أو قريباً، من دون أن تهاب موت، أو تردعها تقاليد أو قيود، وكأنها شاءت عن قصد وإصرار، أو عن غير قصد أن تكون حياتها شريطاً سينمائياً، أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، حيث سطرت حياتها بقصص الفقر والألم النفسي والجسدي وسلسلة مغامرات، بدءاً باللهو والسهر والحب واللذة والألم معاً، وصولاً حتى الجاسوسية، بحيث لا تبتعد كثيراً عن قصص أغاثا كريستي الخيالية الشهيرة، وعاشت حياتها بكل ما هو مشوّق، وغريب، وغير معتاد من امرأة شرقية، عربية، وذات أصول نبيلة، لتبقى سيرتها مثالاً للمرأة المتمردة على كل شيء.هل كانت بذلك تنتقم من تلك الحياة التي شاء لها القدر أن تبدأها بالترحال والهروب منذ لحظة ولادتها وحتى لحظة مماتها، وكأنها تقول لنفسها وللعالم أجمع: إنكم لم تذوقوا طعم الذل والحرمان، ولم ترضعوا الخوف كما رضعته، ولم تجربوا المحن في أيام الطفولة السوداء، في أوقات لم أجد من يحنّ علي وعلى عائلتي بكسرة خبز.بعيداً عن الموهبة، أسمهان كانت مثال الأنوثة الطاغية والسحر الذي لا يقاوم. جمال وجهها الحزين كان سلاحاً تستمد منه القوة لتنال مرادها من العقول والقلوب. عقول وقلوب الرجال التي طالما ضعفت أمام شخصيتها المحيرة، حتى إن الصحافي محمد التابعي أقرب أصدقائها، قال إنها يمكن أن تبكي بدموع غزيرة في لحظة، ومن ثم تضحك من قلبها في لحظة أخرى. امرأة استعصت على الوصف حقاً، وقد لا يملك امرؤ أن يتخذ موقفاً معيناً منها، لكثرة ما حوته شخصيتها من غرائب السلوك وتناقضاته. جمالها وجسدها الناحل وشكلها العام قد تثير المواقف المتناقضة منها وقد يختلف البعض حول جمال وجهها أو جسدها، لكن في أي زمان وفي أي مكان لم يختلف اثنان على حلاوة صوتها، والقشعريرة التي يبعثها فينا حين نستمع إليه. عرفت الفقر والغنى، لقبت الفنانة أسمهان وعشقت لقب الأميرة آمال. أحبت الغناء وكرهت الإذلال، تألمت وهي بعد غضة، إذ اضطرها العوز أن تقف ساعات، تغني في صالات شارع عماد الدين، حيث كانت تطوي آلامها، وتغالب دموعها كي لا تسيل أمام جمهور من السكارى والثملين يقذفونها بنكات وألفاظ خاصة برواد تلك الصالات. أحبت الغناء لأجل المزاج، لا من أجل المال، والغناء لنفسها ولوالدتها ولمن تحب ولمن ترتاح إليهم، لكن الغناء بالأجر مقتته إذ أصبح مهنتها التي لا تستطيع التخلي عنها، بل تعتبره مهنة أسرت موهبتها.كانت تثور على هذا الوضع أحياناً، لكن ليس بيدها حيلة، فهي مضطرة للاستمرار كي تعيل نفسها وعائلتها. ولطالما رفضت الجلوس مع رواد الصالة بعد انتهاء وصلتها كما كان متعارفاً، وقد حرص شقيقاها فؤاد وفريد على أن لا تلزمها العقود مجالسة الزبائن.سبع سنوات حافلة سبقت وفاتها، تعتبر من أفضل سنوات حياتها، نالت فيها الشهرة والمال، بعد تعرفها إلى طلعت حرب باشا، الذي قدمها مع شقيقها فريد إلى الموسيقيين والملحنين والإذاعة وشركات الأسطوانات، فأصبح منزل العائلة في ذلك الوقت، في حي غاردن سيتي يستقطب الملحنين والشعراء والمنتجين والمخرجين، الذين كانوا يمطرون أسمهان بمشاريع غزيرة للسينما والمسرح، والجميع مأسور بشبابها وجمالها وأنوثتها الطاغية وصوتها المبدع.سرّ الصوتأي سرّ في هذا الصوت المتلألئ الذي يأسر القلوب بشحناته القوية، وانحناءاته المفعمة بالدفء والحنان والشجن، بل قدرته على بصم أي لحن ببصمته، وتغليف الأنغام بخصوصيته، وإسباغ الصفة الدرامية الشجية عليه. صوت حمل كمّاً من الصفات التي كان يوصف بها صوت متكامل العناصر، وموهبة إلهية قلّما يهبها الله لحنجرة ما.المستمع العادي يستطيع أن يشعر بأوتار الصوت المشدودة، الأقرب إلى صفاء الذهب، في رنينه ولمعانه. صوت أنثوي بالغ الإحساس، مرهف، يتلون مع كل أغنية، حسب مضمونها، ونوعية الدور المسند إليها في السينما، كما في الحياة. ظهرت أسمهان في زمن العمالقة. في أوائل الثلاثينات. أصوات كبيرة راسخة في الآذان العربية وأذهانها ووجدانها، حين كانت مواصفات معينة في الصوت لم
1912 ـ 1944 أسمهان بعد ستين عاماً ونيف على رحيلها
نشر في: 9 يناير, 2010: 03:43 م