قد لا تبدو حقيقة الطائفية جلية خلال تعاملاتنا وحياتنا اليومية فقد نجح الخيّرون وأصحاب الفكر الوسطي من تحجيم مظاهرها إلى الحد المعقول، وقد يكون الصراع الدامي بين الطائفتين أنتج لنا نوعا من الخلاصات خلال السنوات الماضية، فصرنا ننبذها، نستقبح أعمالها، لكن نتائجها لما تزل ماثلة في عقل الطائفة المغلوبة وفي الذهن الاضعف من خلال ممارسات عدة.
بالأمس كنا صحبة وأصدقاء من منطقة واحدة، بيننا السني والشيعي، كنا ذهبنا في رحلة قصيرة نصطاد السمك على شط العرب في منطقة السيبة القريبة من الفاو، لكن وحين حانت صلاة الظهر رأيت أن أصدقاءنا وليد وعبد الرحمن وفارس وهم من أهل السنة قد تفرقوا بين النخل وخلف الاكمات كل يصلي صلاته مفردة، في خشية واضحة من ان يراهم أحد. كنت أستشعر الخوف والريبة في أعماقهم وهم يرفعون أيديهم تحت صدورهم خلال الصلاة. وحين انقضت الصلاة وجلسنا على المائدة، همس في أذني أحدهم بانه كان يخشى من أن يراه احد وهو يصلي صلاة أهل السنة. قلت الحمد لله بأنني لست من المصلين، فضحكنا معا ضحكة يائسة خائفة أخرى.
في منطقة الشلامجة الحدودية مع إيران هناك بحيرة كبيرة هي من أعمال الحرب العراقية الايرانية، تقع اليوم تحت سيطرة الجيش والسلطات الأمنية، البحيرة مكان وافر لصيد السمك، فيها أسماك كثيرة، وانواع مما يحبه البصريون مثل الشانك والشعم كذلك أنواع أخرى مثل الكارب لكن بأوزان خرافية، لذا فهي مقصد الصيادين، ولأن المنطقة عسكرية بالمعنى الأمني فلا يدخلها إلا من يحمل تصريحا بالدخول من السلطات الأمنية. يقول عبد الحافظ بأنه صديق لأحد الضباط المسؤولين هناك، وهو طلب الذي منه ان يبعث له باسمه كاملا ورقم سيارته كيما يستحصل له موافقة دخول البحيرة. وبما أن اسم صاحبنا كان عبد الحافظ عبد العزيز عبد الله فقد قال له بأن اسمك هذا لغم، وهو اسم سني بلا شك لذا يتعذر علي استحصال موافقة الضابط المسؤول. ولم يستحصل الموافقة.
طريقان يؤديان إلى جامع في إحدى القرى في ابي الخصيب(جامع سني) أحدهما مباشر قريب، محاذ للشارع العام، لكنه مكشوف وآخر يخترق القرية، ترابي لكنه أطول، وهو يمر ببيوت القرية لذا يعمد الكثير من مصلي الجامع إلى تجنب الطريق القصير المحاذي للشارع وسلك الطريق الترابية الطويلة تسبياً في تحاش واضح من أنظار الناس، هناك خشية من الوصل للجامع، مع يقين الناس هنا بان المصلين من الناس المساكين الذي لا يعرفون عن ابن تيمية شيئاً وليس في بيوتهم من آثار محمد عبد الوهاب إلا كليوبترا وكل ده كان ليه ومضناك جفاه مرقده والنهر الخالد.
يريد معلمي(سني) الذي درّسني الانجليزية في الابتدائية العودة للبصرة، هو الذي أعدم نظام صدام حسين ابنه البكر بتهمة الانتماء لحزب الدعوة. الرجل بلغ من العمر اليوم الثمانين سنة، سكن الموصل لأنه لا يملك دارا، فقد ماتت زوجته، ذهب ليسكن في دار ابنته المتزوجة من كردي هناك، هو اليوم يعيش في اربيل هاربا من داعش. يستشيرني في إمكانية السكن في قريتنا، وهل سيكون بمنأى عن مساءلة السلطات، وهل سيكون في مأمن من ملاحقة المليشيات؟ لم أجبه، ولم أنصحه بالعودة مع يقيني بانه الأحق بالعيش في مدينته وبين أهله . ترى بماذا أجيبه وانا أورد للناس التفاصيل هذه؟
ما بعد الطائفية ما وراء الخوف
[post-views]
نشر في: 22 سبتمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...