بالامس مرت الذكرى الـ 35 للحرب العراقية / الايرانية، التي سالت فيها وحولها انهار من الدماء وضعف ذلك من الحبر والكلام. في مثل هكذا يوم من كل عام ينخرط العراقيون، واقل منهم الايرانيون، في جدل بيزنطي حول الطرف المسؤول عن اطلاق صافرة هذه الحرب العبثية.
يأخذ هذا الجدل طابعا عاطفيا يتعصب من خلاله كل طرف لرؤيته الخاصة بشأن هذا الفصل الدموي من تاريخنا. لكن مثل هكذا جدل لايبدو مفيداً لقارئي التاريخ ولمن خلفهم من صناع القرار ورجال الدولة وقادة الامم. فالاهم من الحروب هي دروس السلام التي دفعنا ثمنها، على الجانبين، دماء غالية وموارد كبيرة قدرت بنصف ترليون دولار. فلا قيمة لحرب ما لم تؤد لسلام، ولا قيمة لسلام ما لم يمنع عودة شبح الحروب.
في مثل هذا اليوم من كل عام تحرص ايران الرسمية على اقامة استذكار احتفالي، يتواصل على مدى 7 ايام يسمونه "اسبوع الدفاع المقدس"، يتم تكريم "الشهداء"، واستعراض "بطولات" قادتهم، والتركيز على تعريف الجيل الجديد بأهمية ما هم عليه وانهم يقطفون ثمرة اجيال من المضحين.
لكن الذكرى تمر موجعة وأليمة عراقيا. فبعكس الجار الشرقي الذي انشغل طيلة العقود الثلاثة الماضية بتنمية واسعة في شتى المجالات، بقينا كعراقيين نرث الحروب والموت جيلا بعد جيل. هذا ما قد يفسر تطيرنا من استذكار حروب الآباء. فالموت لدينا لم يختلف لا باللون ولا بالطعم ولا الرائحة حتى!
عراقيا، وعلى المستوى الرسمي، تعيد ذكرى حرب الخليج الثانية، طرح سؤال البارانويا المزمنة التي تعاني منها الدولة العراقية حيال علاقتها مع جوارها الجغرافي، الامر الذي حولها الى كيان معزول واعزل وسط منطقة تعتبر البؤرة الابرز للتوتر في العالم.
فمنذ خروج العراق من حلف بغداد في 1958، وهو يعجز عن حماية كيانه كدولة ونظام، عبر انشاء احلاف او الانضمام الى احلاف تحميه او تعزز من مواقفه الاقليمية والدولية.
وطيلة العقود الماضية كان لكل مكون عراقي حليفه الاقليمي والدولي يستقوي به ايام شدته. فهناك من شرق وهناك من غرب بحثا عن اصدقائه، لكن الدولة العراقية بقيت تعاني من توحد مخيف فاقمت من حدته رائحة الدم والبارود التي لم تنقطع منذ اردى ضابط متهور ملكاً شاباً مثل الحلم بعراق معافى.
لقد اقترب العراق من روسيا السوفيتية لكنه لم يدر في فلك الشيوعية، واقترب، لاحقا، من الولايات المتحدة لكنه لم يدر في الفلك الغربي.الا ان بارقة امل يتيمة لاحت في الافق عندما انخرطت بغداد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في تأسيس "حركة عدم الانحياز" و"منظمة الدول المصدرة للنفط / اوبك"، لكن كل ذلك لم يفلح باخراج بغداد من توحدها.
خاض العراق حربه مع ايران وهو يتوجس خيفة من الروس والاميركان على حد سواء، ما حوله الى مجرد برميل نفط وسوق خصبة للسلاح لا اكثر، يحرص الجميع على شراء نفطه مقابل اكداس من السلاح.
البارانويا ذاتها، هي التي ادخلت بغداد في حرب الخليج الثانية، وفرضت عليها حصارا قاسيا استمر 13 عاما. فعندما لا تتعلم الدرس عليك تجربته مرة اخرى، وبكلفة اكبر احيانا.
اسجل ذلك، وانا اراقب ورطتنا، كدولة، مع داعش التي التهمت ثلث مساحة البلد، وافرغت ما ابقاه الفساد من اموال النفط في غضون اشهر. فمنذ اكثر من عام ونحن نطرق الابواب لطلب العون والمساعدة لمواجهة هذه القوى الارهابية، والنتيجة اننا نرواح مكاننا.
يحدث هذا في وقت ينجح نظام عاجز وفقير كالنظام السوري في البقاء اولا، ومواجهة موجة التهديد الكبيرة التي تعرض لها ككيان سياسي ثانيا. لكن ذلك لم يحدث الا بفعل انخراطه بحلف متماسك وصلب، ادى اخيرا الى اقناع العالم برؤيته في محاربة داعش، وتقديم الحلول السياسية على العسكرية.
بعد 35 عاما نستذكر حرباً عبثية في وقت نخوض حربا اكثر عبثية، ونحن نصر على عدم تحديد بوصلة الحلفاء، ولا تحديد سلم اولويات البقاء كدولة في القرن الحادي والعشرين. والاسوأ من ذلك قدرتنا على تناسي التاريخ وكأنه حلم عابر.
50 عاما من التوحد والبارود
[post-views]
نشر في: 22 سبتمبر, 2015: 09:01 م