الكيلومترات التي قطعناها وقطعتنا مشيا كانت تنتهي بنا عند ( مسرح بغداد ) او ( مسرح اليوم ) او ( مسرح الـ 60 كرسي ) ، وفرق مسرحية اخرى بلا صالات عرض كانت هي الاخرى مقراتها في شارع السعدون او محلة البتاوين او في منطقة الصالحية او مدخل شارع النهر . كنا ن
الكيلومترات التي قطعناها وقطعتنا مشيا كانت تنتهي بنا عند ( مسرح بغداد ) او ( مسرح اليوم ) او ( مسرح الـ 60 كرسي ) ، وفرق مسرحية اخرى بلا صالات عرض كانت هي الاخرى مقراتها في شارع السعدون او محلة البتاوين او في منطقة الصالحية او مدخل شارع النهر . كنا نذهب اليها – الفرق المسرحية - اما للتمرين او للعروض المسائية ، وأسعدنا من كان يحظى باسبوع مجاني كالذي حصل معنا في ( النخلة والجيران ) ومع ( فرقة 14 تموز ) في عرضهم لمسرحية ( الدبخانة ) . كانت تلك مكرمة تمنحها لنا الدولة على خشبة مسرح الدولة ( مقر المسرح القومي ) في كرادة مريم – المنطقة الخضراء فيما بعد – حاليا لا يقطنها الا المسؤولون .
وبالتالي فالهموم اعلاه ، ورحلة الأميال سيرا على الاقدام ، مصحوبة بالجوع المزمن او التخمة بالوجبات الخالية من الفيتامينات بها او بسببها شل العديد من مبدعينا ممن لا تعتني بهم الدولة ولا الايام ، دفع الكثيرون منهم ثمنها بأمراض مزمنة أو ما يقابلها من الهموم . هي التي اقعدت اسماعيل خليل ، الذي اصبح يشكو من امراض عملاقة ، اقعدته ، وابعدته عن الابداع ، بعيدا عن الوطن الذي لا يعتني بمبدعيه ، لكن المنفى احتضنه مواطنا من الدرجة الاولى وعالجه بارقى المستشفيات وما زال في العلاج باهتمام من كبار مسؤولي المنافي من امثال الكبيرة ( ميركل ) رئيسة وزراء المانيا ، التي فرغت بيتها لاستقبال من وصل من اللاجئين .
اسماعيل خليل الذي عمّده الكبار ، ابراهيم جلال ، ويوسف العاني ، جعفر السعدي ، جعفر علي ، قاسم محمد ، سامي عبد الحميد ، اسعد عبد الرزاق ، بدري حسون فريد ، ابراهيم الخطيب ، بهنام ميخائيل ، وسواهم . وبعد ان انجز ادواره في مسرحيات : النخلة والجيران ، تموز يقرع الناقوس ، في انتظار كودو ، عطيل ، ماكبث ، وسواها على مسارح بغداد . كل هذا الجهد خلق منه مخرجا من جيل الصبية – نحن – كما يحلو للكبار تسميتنا وقتها . اذن هو واحد من اؤلئك الصبية الفرحين بالتسمية ممن طمّنوا الكبار بولادة جيل حمل رسالة السعي المرهق من التصورات الخاضعة لقوانين التطور الاجتماعي والانساني في الحياة والمسرح . اطلقنا عليه العديد من الصفات ، الحكيم ، الهادئ ، النبيل ، الطيب ، الذي نادرا ما يخرج من رزانته . رجل بهذه الصفات هل يصلح لأداء شخصية ( ياجو الشرير ) البعيد عن كل صفات اسماعيل في مسرحية ( عطيل ) التي اخرجتها أنا – فاضل خليل – باشراف متميز من - ابراهيم جلال -واخترت لها ( اسماعيل خليل – ياجو ) بصفاته المغايرة عدا الصفات الخارجية من وجهة النظر المتفق عليها عالميا في ضآلة الجسم ، وفي لحظات الصمت قبل الكلام ، وبالصوت الحكيم المتأني . نعم جازما كنت ومقتنعا ان يكون ( اسماعيل - ياجو )، فـ "سحنته التي تدل على عمق نظرته ووعيه وهمه المسرحي" الذي يرتقي به الى مصاف أهم النجوم الكبار في العراق والعالم . والطيبة كيف ستتفق مع شرور ياجو ؟! حملت اسئلتي ومخاوفي وتوجهت بها الى ( البروفيسور ابراهيم جلال ) المشرف على مشروع تخرجي ( مسرحية عطيل كما اراه ) ، فاتفق معي على اختيار ( عبدالجبار كاظم ) لاداء شخصية ( عطيل ) ، مع شعوري في أننا سنختلف على اختيار ( اسماعيل خليل ) لاداء شخصية ( ياجو ). لكن موافقة ابراهيم جلال سبقتني على صواب الاختيار ، قائلا : اذا اردت ان تسند دور الشرير الى ممثل مشاكس سيقدم الشر ناقصا . وستكون فرصة امام اسماعيل لأن يلعب الشر الذي لم يعرفه في الحياة على خشبة المسرح . وهكذا لعب ( اسماعيل - ياجو ) على المسرح بنجاح كبير .
وفي الوقت الذي كان فيه التجديد في المسرح لا يعدو اكثر من تغيرات طفيفة على النص او في الديكور وسواها كان يعالجها بحلول تقليدية ، و يبحث لها عن اشكال أكثر غرائبية ، مثيرة للجدل كما في اخراجه لمسرحية ( ماكبث ) عندما رسم خارطة العالم على بالونة تمثل الكرة الارضية يضعها بين يدي ماكبث يرمي بها حيث يشاء . و(ماكبث) كانت اطروحة تخرج اسماعيل للحصول على شهادة البكالوريوس ، طامحا في عمله عليها ان تكون غير ما اعتاد عليه الاخراج ، يأمل ان تكون خارج المألوف ، بدأ من اختصارها نصا في جعله – النص 7 صفحات - ورؤية لاتماثل بقية الشكسبيريات في المعمار المدهش واللغة القريبة من الكلام في الانجيل والكتب المنزلة وسوى ذلك من الخروقات التقليدية التي لا تجانب طاعة الوالدين في المسرح العراقي . هذه التصورات دفعت باللجنة الى منع عرضها ، الامر الذي يجعل اسماعيل الى ترك الدراسة . لم يرض ذلك اساتذته ( جعفر علي ، جعفر السعدي ) اللذين انبريا لاقناع ابراهيم جلال – استاذه المشرف - ان يوافق على عرض ( ماكبث ) من اجل مستقبله في الحصول على شهادة التخرج ، فوافق ابراهيم وتشكلت لجنة الاختبار من كبار الاساتذة الذين منحوه درجة الامتياز في الاخراج المسرحي . ولا يفوتنا ان نذكر بأن الصحف ايضا تناولت هذا الحدث بما يستحق من الاهمية . من هنا تولد عنده موقف رافض للنقد الذي يكتبه نقاد غير متخصصون ، جاءوا اليه من اختصاصات ادبية مغايرة . وهو ما جعل نقودهم مصابة بالضعف المعرفي والفكري ، اجهضت كتاباتهم العديد من التجارب الناجحة في المسرح . لا تعدو كتاباتهم غير انطباعات تناولت النص فقط ، وهو الجانب السهل من المعادلة والقريب من اختصاصاتهم . فلم يتطرقوا الى التجسيد وما يتبعه من اساسيات تشكل التكامل الفني في العرض المسرحي . وان مهمة الناقد كما حددها برتولد بريخت بامكانها استدراج الجمهور إلى المسرح ، والناقد هو من يدفعنا إلى التنازل عن قناعاتنا وفقا لآرائه . وهذا النوع من النقاد غير متوفر – حسب اسماعيل - وهو الذي اثار اشكالية ان " النقد كالفكر ، أو هو فكر لا يتغذى ولا ينمو إلا بالتساؤل المستمر"(1) . وبعد ان تدنى مستوى المسرح في الآونة الاخيرة صار الناقد الذي يشكو من العروض التي تستحق الكتابة وها هو الكاتب المصري لويس عوض يقول : " ماذا أنقد ؟ للأسف أن ما يعرض حاليا لا علاقة له بفن المسرح ، لا من قريب ولا من بعيد"(2) . فالرأي النقدي اذن لا يولد من لا شيء بل هو ينمو وينتعش في ظل المعرفة والعروض الكبيرة .
• انه هو اسماعيل خليل أمين ، عراقي اينما حل – حسب شعوره – تنقَّل بين سوريا وبيروت وبلغاريا واليمن والمانيا التي استقر بها ملاذا للحياة وللعلاج ، وسواها من المنافي الهامشية ، ضمن حملة الهجرة الاولى للخلاص من الوطن الذي لا يوفر الحياة والسلام لابنائه . ولد في بغداد 1948. انطلق صغيرا من برنامج (جنة الاطفال) للمربي الكبير (عمو زكي) . 1967 انتمى الى (فرقة الصداقة) التابعة للمركز الثقافي السوفياتي فمثل لها واخرج العديد من المسرحيات . 1968 التحق باكاديمية الفنون الجميلة لدراسة المسرح . 1969 تم اختياره ممثلا في مسرحية ( النخلة والجيران ) وما تبعها من المسرحيات لفرقة المسرح الفني الحديث منها على سبيل المثال لا الحصر ( تموز يقرع الناقوس ) تأليف عادل كاظم واخراج سامي عبد الحميد .
هوامش
• الحرية المطلقة ، شرط الابداع ، حوار أجراه : صالح حسن فارس ، مع المخرج اسماعيل خليل .
1* أدونيس ، كلام البدايات ، دار الآداب ، بيروت 1989 ، ط1 ، ص190.
2* د.لويس عوض ، أزمة المسرح المصري..ومثلث النص ، الممثل ، والنقد . جريدة الجمهورية ، الخميس26/4/1984 ، ص7 .