ما من إنسان راشد سويّ ، يبرئ طبيبا اهمل علاج مريضه او استهان بمعاناته ، وفضل تخمة رصيده المالي على سلامة المريض .
ما من إنسان عاقل برأ وبرر سلوك أهل المريض بالاعتداء على طبيب أدى واجبه على قدر استطاعته ، ولكن حكم المنية او استفحال الداء والقضاء والقدر كانوا واقفين بالمرصاد .
أسوق هذا الاستهلال بعدما نشر من صور وأخبار عن حوادث اعتداء على أطباء عراقيين —قيل— إنهم تقاعسوا عن أداء واجبهم الإنساني . وحنثوا بقسمهم القدسي ، مما أدى لوفاة مريض او تفاقم مرضه .
أستحضر حكاية حقيقية قرأتها منذ حين ، وظلت لصيقة الذاكرة … ملخص الحكاية : إن نقابة الأطباء البريطانية ، أقامت حفلة بمناسبة تخرج دفعة جديدة من الأطباء ، برعاية الوزير لويد جورج - زعيم حزب الأحرار حينئذ ، الذي ألقى كلمة يحث فيها الخريجين الجدد للتشبث بالرحمة وتغليب الحس الإنساني أثناء مزاولة المهنة . أعقبه نقيب الأطباء ، مؤكدا على قدسية المهنة .حيث روى لهم قصة حقيقية كان هو بطلها وشاهدها . ليتخذوا منها نبراسا للعمل … قال :
في ليلة ممطرة عاصفة طرقت باب بيتي - عيادتي - سيدة هلعة ، قالت : —
الحقني يا دكتور . طفلي الوحيد مريض ، ربما حالته خطرة ، ارجوك عجل ، افعل شيئا لإنقاذه .
سارعت - يقول النقيب - لاصطحابها رغم الرعود والريح والمطر ، وبعد رحلة شاقة بين أزقة ضيقة . وصلنا منزلها الذي كان عبارة عن غرفة وحيدة ، وطفلها في زاوية منها يتلوى من الألم . أسعفت الطفل بما تيسر في حقيبتي من دواء . طمأنتها ووعدتها بزيارة قريبة إن استدعى الأمر .. … استوقفتني وأنا أهمّ بالخروج ، وناولتني كيسا صغيرا في داخله بعض نقود ،، قالت بامتنان : - هذا كل ما عندي ، حلال عليك …..
أرجعت الكيس ليدها الممدودة . رفضت العطية ، قلت : لم أمتثل إلا لواجبي الإنساني …..
بعدها أخذتني زحمة الحياة والعمل ، نسيت معها الأم والطفل وتلك الليلة الظلماء . ولكني لم أنس وصية أمي ،، أن أبحث عن تلك المرآة والطفل و…
ما كاد نقيب الأطباء ينهي كلمته حتى قفز رجل من المقاعد الأمامية متجهاً نحو المنصة . معانقاً النقيب :
اسمح لي يا سيدي أن أقبّل يدك ،، فأنا ، أنا ،- والصوت تخنقه عبرة - أنا ذاك الطفل المريض الفقير الذي ذكرته في خطابك ، فلتسعد أمي في رقدتها ، فقد أوصتني أن أبحث عنك وأعثر عليك……
الطفل الفقير المريض لم يكن غير لويد جورج ، رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب الأحرار آنذاك .