كتب احدهم مرة : افكر لو أن هيئة منظمة اختارت من فرنسا ومن انجلترا احد عشر لاعبا ليكونوا فريقا. واختارت من البلدين ايضا احد عشر لاعبا ليكونوا فريقا اخر وبدات المباراة ، لمن سيصفق ويهلل المتفرجون الانجليز أو الفرنسيون؟ الجواب الاكيد لكلا الفريقين
كتب احدهم مرة : افكر لو أن هيئة منظمة اختارت من فرنسا ومن انجلترا احد عشر لاعبا ليكونوا فريقا. واختارت من البلدين ايضا احد عشر لاعبا ليكونوا فريقا اخر وبدات المباراة ، لمن سيصفق ويهلل المتفرجون الانجليز أو الفرنسيون؟ الجواب الاكيد لكلا الفريقين! ما عاد فريقاً فرنسياً وفريقاً انجليزياً احدهما خصم للآخر. انتهينا من مشكلة دمرت الكثير من بلدان العالم واحرقت فصولا كاملة من الحضارة الانسانية.
صحيح ان لنا ارتباطا حميما ولهذه الحميمية نفاذ وجودي يغذي مشاعرنا. فلا أسماء الانهار في الوطن ايحاء غامر بمحبة غامضة واضحة وكذلك جباله واسماء مدنه وآثاره. ثمة احساس بقيم خاصة. لكن هذه المسألة يواجهها ان كان لهذه المحبات والصلات ولناسها ناموس اخلاقي يربطها دائما بالحياة الواسعة. أي بالناس الآخرين. لقد ارتقت المشاعر القومية. أو المشاعر الوطنية التي اتحدث عنها لأن تكون امتيازا اخلاقيا انسانيا. وفكرة ان بلدي له مصالح تتميز عن مصالح بقية بلدان العالم، هذه الفكرة صارت تفقد وضوحها ودلالاتها بالتدريج. اظنها تضاءلت جدا في نظر المثقفين والعلماء ورجال الفن. وما تزال تغذيها مصادر قديمة بالنسبة للناس العاديين أو للناس المتعلقين بمواطنهم وذكرياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية... صار صعبا القول: ان الفرد اذا تقدم في المدنية لا يمكن ان يقبل الوطنية كقاعدة اخلاقية بلا تردد. محبة الوطن هي اصلا محبة مصالح ناسهِ وجماليات وقيم ارثه وطبيعته والحرص على سلامها. ان الحدود التي تفصل الوحدات الاجتماعية في العالم حدود غامضة واعتباطية بدليل تآلفهم اذا وُجِدوا معا في بلد واحد واشتراكهم معا في العمل في مؤسسة واحدة أو مستشفى أو مصنع. هناك افراد، هذه حقيقة وهناك الجنس البشري على الكوكب. هذه حقيقة ثانية.
امام العقول الحديثة المثقفة والمتحررةر، تنهار الحواجز التي تفصل بين الحقيقتين كما صار مخجلاً فرض "الأنا" القومية وتسييدها.
اظن الألفة وحدها هي التي تجعل واحدنا يتأمل جمال النهر أو الجبل أو الغروب على النخيل بمشاعر مختلفة، وربما بلا اهتمام، يتامل الجبال والماء والغروب في بلد لآخر. بعد سنوات الألفة، ستكون له صلات محبة مع هذه التي كانت غريبة يوما. اظن ان فكر التعصب الأعمى والغريزي، البدائي في بعض منه، هو وراء المشاق التي تحملت الشعوب الكثير منها، بل تحملت مثلها مجاميع في الشعب الواحد. المسألة مسألة ارتقاء أو هبوط في الفهم الانساني وفي مدى نقاء الصلة بالحياة.
الفرد غير ملوم على كونه مسلما أو يهوديا أو بوذيا أو عابد أوثان. أو من هذا المذهب أو ذاك وحتى احيانا من هذا الحزب أو ذاك. مثلما هو غير ملوم على كونه عربيا او اعجميا.
هو وُلِدَ في عائلة ذلك شأنها وتدين بذلك وتحمل إرثها وليس سهلا دائما التمرد عليها. الانصياع هو السائد. إلى هنا نحترم المحكومين بتلك النواميس او ذاك الإرث. ولكننا نبدا بالاعتراض على من نهض ثقافيا ووعيا انسانيا وصار يرى . وحتى هذا ليس كافيا اذا لم يتوافر له ضمان السلامة ولم يجد الحرية. لكن البدء بالتململ من وطأة الماضي هو اولى اشارات الوعي.
نحن في مرحلة تاريخية من الحضارة البشرية توجب علينا لا اعادة النظر في خصوماتنا وكراهاتنا ولكن ان نتبنى مبادئ وقيم الحركات الانسانية الجديدة في احترام واقع الناس والعمل الجاد في التنوير. التسامح أول الدلائل على الرقيّ المدني، وهذا لا يتأتى الا من الثقة بالفعل، بالعلم، بالحقائق البشرية. لا يكفي الاعتماد على الذوق والشفقة. ان الاحساس بالقيم يؤدي مباشرة أو بطرق غير مباشرة، إلى الاحساس بضرورة الحرية الشخصية. تجاوزت البشرية المتحضرة الانحيازات الصغيرة عاطفية المنشأ إلى المصالح الكونية، إلى مصالح الانسانية العليا والاساسية. يكفي ما فعلته الاديان والمذاهب والعرقيات من الناس. تاريخ ملطخ بالدم يخجل ويحزن الروح الجديدة للعالم. ان احساسنا بالقيم يشعرنا بالرغبة الحقيقية في توفير اكبر قسط ممكن من التعبير الذاتي لكل انسان. واحساسنا بالقيم الجمالية والانسانية مصدر اخوة بشرية وتفهم انساني للمشكلات على الارض. مصادرة الاخرين كان يجب ان ننتهي منه ونمسح اثاره.
امتلاك المعرفة، والتحضر مكسب عظيم وتفوق. ولكنه لا يبيح لك اكتساح الأقل معرفة أو المختلف. امنحوا الهمجيين فهم يتطلعون إلى المعرفة! المتخلفين حضاريا، امنحوهم معرفة لا تواجهوا التوحشيين بوحشية اخرى ذكية ولا البدائيين ببدائية جديدة، انهم يريدون حضارة، يتمنون تقدما اجتماعيا.
لو اقيمت مصانع حديثة في افغانستان وتم اصلاح زراعي واسع ومكننة، واقيمت متنزهات ومدارس ورعاية اجتماعية وانشغل الناس بادارة مكائن المصانع الحديثة والمزارع الجديدة، لتغيرت افكارهم، وتنامى الشعور الانساني ولغيروا حتى سراويلهم الفضفاضة بجينز كما يتمنى الامريكان ولتوفرت الاعداد الكبيرة من القتلى والكثير من الاموال التي صُرِفَت على الطائرات والقذائف. ولما دُمِّرت مدن ولا منشآت ولا احترقت قرى. ليكن العلاج بالخير فقد اكتفت البشرية من الشرور، ولنعد التفكير بالحياة ونتعلم محبة الانسان! ان العقل اليوم مكلف بتفحص ما بقي فيه من غرائز همجية وعدوانات. حتى المصالح الاقتصادية والسياسية للدول، يمكن ان توفر بطرق غير التدمير والقنابل والنيران.
انا اعلم، لست ساذجا ولا بسيطا، ان السلاح والقصف والإبادات من فوق هي واحدة من اساليب فرض الارادة بعد مسح الارض. هذا التفكير الامبريالي حاضر ومرسوم قبل الحدث. ولكني مع ذلك ادعو إلى ان يتفحص اولاء مناطق الهمجية الكامنة في رؤوسهم، وان يعودوا إلى الاساليب الانسانية لتحقيق اهدافهم فهي نافعة للطرفين واقل كلفة لهم!
يقول "كليف بل" في الكتاب الذي ذكرناه: ارجو الا يفهم اني اقول بان الكاتب والفيلسوف والمتصوف كامل المدنية لا يمكن ان يكون رفيع المدنية وهو ينظر لأمور الحياة بعين واحدة. وبهذا لم يكن اي من دانتي أو بليك أو سيزان أو دستويفسكي بكامل عمله وبكل امتيازه اذا لم يحس بان هناك امورا في الحياة تستحق منه اهتماما لا يقل عن اهتماماته الخاصة بالتعبير الجميل عن النفس. وهذا يعني ان يكون معنيا كل العناية بالحياة وبالجمال والحق والمعرفة.." وهذه ضرورات المشاركة الانسانية في اعمار الحياة، انه لابد من ان يكون ممتلئ النفس بعرفان الجميل والتعبير الجميل عن النفس وتقدمها.
فقدان البصيرة الواعية والتقدير الانساني يعني افتقاد مزايا البراعات وضياع جدواها. يجب في كل حال، ونحن في اشتباك الحياة الصعب، الا يتنازل العقل للاهواء الطارئة والانفعالات. والا تنقطع الصلة، بين الفنون والاداب والافكار السياسية وكل النضالات في كل الظروف، عن الخير المطلق للحياة. ما دامت ارضنا واحدة، فالألفة الانسانية وشرط العيش المشترك لابد منهما لسلام الجميع وصالحهم. لنعتز بما نعتز، لكن تبقى الارض بيت الجميع... لا نملك حلا اخر يسنجم والعقل الانساني المعاصر.
أي حاجز بينك وبين سلام الحياة والناس يعني علاقة مع الهمجية..