قبل أيام معدودات ترجلت عن صهوة الحياة - جارتي الأثيرة ( جارام ) عن عمر ناهز الثمانين سنة وهي كاتبة صينية وقور، لها عدد من المؤلفات لم يكن بيتها إلا مكتبة كبيرة ضمت كتبا بلغات عديدة منها الإنكليزية والفرنسية والصينية .
(جارام ) لم تكتم خبر وصيتها التي أودعتها لدى آمينة الدار بأنها رصدت مبلغاً جزلاً من المال لتغطية نفقات شحن كتبها التي أربت على المائتي كتاب . وأوكلت لصديقتها القديمة مهمة تعبئة كتبها وأوراق مراسلاتها والإشراف على عملية الشحن لضمان وصولها، للمكتبة العامة في مسقط رأسها في الصين لتعم الفائدة على رواد المكتبة!
هذه الحادثة القريبة ، نكأت جرحاً قديماً طالما تحدثت عنه وبعالي الصوت بين مَن أثق به من زملاء المهنة او بما سفحته على الورق من مناشدات لمسؤولي الثقافة أن لا يترك إرث الراحلين المعرفي الى مكبات الزبالة او سوق صنع أكياس الورق !!
تحتفظ الأمم الحية بتراث الذين تركوا للذائقة الثقافية لحسة العسل ، وإنظروا كيف تحتفي الأوساط الثقافية البريطانية وتعيد الصحف نشر تلك المضغة من الرسالة التي بعث بها الكاتب ( تي .إس.أليوت ) آلى زميله (عزرا باوند ) يطلب فيها رأيه ، واصفاً إياه بـ ( الصانع الأعظم ) .
هل نحن أمة تستهين ببنيها ، أحياء ، ثم تتجاهل عطاياهم وهم راحلون؟ وإلا ،، فأي مرفق ثقافي حوى مكتبات رموز الثقافة المعاصرة؟ أين مصير مكتبة علي جواد الطاهر ومدني صالح ؟ ويوسف الصائغ ؟ وأبجديات الصكار ؟ وعبد الجبار عباس وزهير القيسي ؟ ومصطفى جواد ؟ و.. العشرات، بل المئات غيرهم .
أدري - يقيناً أدري - أنه في ظل أعراس الدم ومآتمه في عراق اليوم ، ستضيع صرخة ملتاعة أن يُعاد الاعتبار للراحلين : بجمع تراثهم الثقافي المعرفي ، مراسلاتهم ومسودات مقالاتهم وكتبهم ، ويُعهد للجنة ( مخلصة لوجه الثقافة) بتبويب وتوثيق تلك الكنوز ، التي هي شذى لمرحلة ، بل هي رحيق مراحل مرت ، ورسمت تفاصيل حياة.
لسنا في شحة من أناس يضطلعون بالمهمة التاريخية ، ولا تنقصنا البنايات لاستقبال إرث الراحلين ، ولكن ، يعوزنا اهتمام مَن بيدهم الحـل والعقـد ، نفتقد صوت المثقفين الصارخ الآمر ، نفتقد سطوة أهل الغيــرة .
البحث عـن ،،
نشر في: 4 أكتوبر, 2015: 09:01 م