إلى ابنتي
أيْ بُنيّتي
أسئلتك أصعب من أسئلة الكبار الذين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء.
- هل هناك جهات أربع في المجرات البعيدة؟
- هل تكذب يا أبي؟
- أغضبتكَ مرة، عندما كنت صغيرة، لأنني طلبت منك أن تشتري لي حذاء باهظ الثمن. قلت لي وقتها: إن ثمن هذا الحذاء يكفي عائلة، في مكان ما من هذا العالم، من أربعة أفراد، لثلاثة أشهر أو أكثر.. وقتها زعلت منك وبكيت في غرفتي، لكنني، الآن، وقد كبرت، صرت أحبك أكثر كلما تذكرت غضبك ذات حذاء باهظ الثمن.
- لماذا يشنون الحروب؟
- قلت لي عندما يسقط صدام حسين سآخذك إلى بغداد.. وها هي اثنتا عشرة سنة مرت على سقوطه ولم تأخذني إلى بغداد.
- لن أحرجك، يا بابا، لأن ليس هناك تواليت غربي في بيت أهلك في بغداد. تعلمت استعمال التواليت الشرقي في بيت أجدادي لأمي في دمشق.
أيْ بنيتي، أن أسئلتك صعبة مثل أسئلة الفلاسفة.
حسنا، إن أسئلة أخرى تتناثر على مخدتي ليلا، في تلك اللحظة الغامضة من الليل، اللحظة التي يُغتال فيها ملوك شكسبير، وأسئلة أخرى تسقط من جيوبي أثناء الذهاب إلى العمل.
لا تكوني وحيدة يا ابنتي.. سيرى الوحيد عينيه تحدقان بوجهه غضباً، أنصحك بالسير مع الجماعة.. النعيم هم الآخرون.. مثلما قال عمك المرحوم شريف الربيعي.
شخصياً، لا شيء يبدد وحشتي غير السير مع الجماعة.
عند السير مع الجماعة يخف الزمن على كاهلك وتصير المسافات أقصر.
أنت كبرت الآن وصار بمقدورك، منذ سنوات، أن تتناولي طعامك بمفردك.. ودخلت الجامعة. الجامعة والجماعة من جذر لغوي واحد. و"الجَمْعُ" تأليف المتفرق.. ومعك في الجامعة شابات وشبّان من أمم شتى، شقر وصفر وسود وسمر ومخلّطون.. و"الجُمْعُ" فصيحة، بضم الميم هو قبضة اليد، وهي متداولة في لهجة العراقيين، لكنهم يلفظونها بكسر الجيم، ولا أظن عرباً غيرهم يتداولونها.
أي بنيتي، فعلت ما بوسعي لأربّيك لزمان غير زماني.
رائع أن تساعدي زميلتك، أو زميلك، في حل مسألة عويصة على الهاتف.
الحياة تصبح أسهل بفضل تعاون الناس.
لكن المعلم لن يبقى معلماً والتلميذ لن يظل تلميذاً إلى الأبد.
مثلاً، أنأ من علمك لعبة الشطرنج لكنك فزت عليّ، أمس، من دون أن أتساهل معك أثناء اللعب.
إنها الخسارة الوحيدة التي جعلتني أسعد إنسان في العالم.
شفتي؟ حال الملك، حتى الملك، بائساً، لأنه وحيد وخطوته أقصر من أن تبلغ شرفته؟
لا تصلح الجماعة لكل أمر.. فأنت، مثلاً، تحلمين وحدك.. وهكذا بقية الناس.
وقد تعملين مع الجماعة في شق ساقية لن تشربي منها قطرة واحدة.
سيري مع الجماعة لكن لا تري الدنيا بأعينهم.
جربت السير مع الجماعة لنذلّل عقبة أو نفتح أفقاً ولا أدري هل نجحت أم أخفقت.. غير أن الحياة تمضي بغض النظر عن نجاح المرء أو فشله.
سرت مع الجماعة ورأيت مدناً وقرى وكتباً لأول مرة، وكدنا نضيع أكثر من مرة وسط الثلوج والذئاب والألغام.. وجابهنا الموت مرات، كما حدث في كردستان، وعشنا، أحياناً، متساوين مثل كرات العجين.. لكننا لسنا متشابهين، أبداً، فثمة آخرون هم الجحيم فعلاً.
كل شيء جائز عند السير مع الجماعة.. و"جيم" الجماعة مثل "جيم النفري": "يسري القلم حيث يسري القصد.. جيم جنة، جيم جحيم".
على أن الألم، مثل الحلم، لا يكابده أحد غيرك أو ينوب عنك.
لن يعرف أحد ذلك الألم الذي تسببه حصاة صغيرة دخلت حذاءك، وأنت تسيرين مع الجماعة.
السيرُ مع الجماعة
[post-views]
نشر في: 5 أكتوبر, 2015: 09:01 م