كان مصطلح (مثقف) يطلق على كل من ( يعرف شيئا عن كل شيء وكل شيء عن شيء ) بغض النظر عن نوعية التعليم او التحصيل الدراسي، ثم اطلق، لاحقا، على كل من يحترف الادب او الفن ـ بشكل خاص ـ فالاطباء والمحامون والمهندسون، مثلا، لم يصنفوا ضمن فئة المثقفين.. ربما لأ
حميدة العربي
كان مصطلح (مثقف) يطلق على كل من ( يعرف شيئا عن كل شيء وكل شيء عن شيء ) بغض النظر عن نوعية التعليم او التحصيل الدراسي، ثم اطلق، لاحقا، على كل من يحترف الادب او الفن ـ بشكل خاص ـ فالاطباء والمحامون والمهندسون، مثلا، لم يصنفوا ضمن فئة المثقفين.. ربما لأن الادب يشكل عالما متنوعا وواسعا يشمل العديد من المجالات كاللغة، الرواية، الشعر، القصة، الفلسفة، المسرحية.. وغيرها، وهذا التنوع المعرفي يكفي للارتقاء بعقلية الانسان وتهذيب ذائقته ولغته فيبدو متنورا بأفكاره متميزا بسلوكه.
اما المثقف وحسب المفهوم الفكري - المغيّر - وكما عرفه انتونيو غرامشي، فهو ذلك “ الذي يمتلك منهجا علميا حديثا يساعده على فهم الواقع وملابساته.. فيعمل على تغيير هذا الواقع الى الافضل، مستعينا بذلك المنهج العلمي “ .. وبما ان الوعي عند الانسان يتشكل وينضج عندما يبدأ بطرح اسئلة حول اوضاعه ـ الذاتية والموضوعية ـ وتتضح امامه العلل والاسباب، وينشغل بالتحليل والتفسير والاستنتاج.. الخ فتتبلور لديه افكار وقناعات جديدة غالبا ما تكون مغايرة لما هو سائد ومتفق عليه.. وهكذا تتكون شخصية المثقف وتظهر، مختلفة، استثنائية وغير تقليدية.. فيبدو للآخرين حالما، رومانسيا، غير واقعي، ويجد نفسه لا يقتنع بأي شيء ولا ينسجم مع محيطه بسهولة. بتلك الصورة المتميزة ـ ومنذ بدايات القرن العشرين ـ شكل المثقفون حضورا تنويريا واضحا ولعبوا دورا مؤثرا في نشر الوعي الاجتماعي والفكري، من خلال مؤلفات ادبية وعلمية متعددة ونشاطات ثقافية متنوعة وترجمات للكثير من الآداب والفنون الاجنبية بعد عودة مجاميع الدارسين والباحثين من الغرب وغيره من بلدان العالم.. مع ذلك لم تكن للمثقف صورة تذكر في السينما العربية، في بداياتها، والتي ركزت فيها على الابطال التقليديين من الشخصيات النافذة في المجتمع، تأثرا بالادب العالمي القديم.. وظلت السينما تتجاهل شخصية المثقف لعقدين من الزمان تقريبا، وعندما تذكرته قدمته بطريقة سطحية ساذجة، فكان الرسام، مثلا، غريب الاطوار، لا مبالٍ، مشعث. والمخرج، حاد الطبع، عصبي، بنظارات سوداء وكاسكيت دائما. والاستاذ الجامعي، متعجرف، متكبر، ولا يختلط بالآخرين.. وفي احسن الاحوال يظهر المثقف بنظارات طبية، متأبطا كتبه في كل المناسبات والظروف.. وظلت الدراما ـ بشكل عام ـ تتحاشى شخصية المثقف ولا تتعامل معها بصورة جدية، ربما لان المثقف عادة ما يكون، شخصا جادا، مستقيما، ذا مبادئ، على الاغلب، صراعه ليس مع الاشخاص من اجل مصالح مادية او مناصب، وانما صراع افكار وايديولوجيات من اجل تغيير المجتمع ورفع مستواه واشاعة الحرية والعدل والمساواة.. وظهوره في الدراما سيطرح افكارا للتحليل والتفسير والنقاش، في حين كانت السينما، في بداياتها، تهدف الى التسلية والتخفيف عن المشاهد، المثقل بالهموم اليومية، والذي لا يرغب بسماع الشرح والتفسير.. ولو ظهرت شخصية المثقف بدون افكار واسئلة للنقاش والتحليل فستبدو سطحية فارغة او بوهيمية كما قدمت في فيلم ( زواج على الطريقة الحديثة ) التي غنت لها سعاد حسني ( تقرا وتكتب ولا تفهمشي ). لذا ابتعد كتاب السيناريو عن تناول شخصية المثقف لانها مركبة ومعقدة وتحتاج الى نضج فكري وانساني عال لكي يتم رسمها ومعالجتها دراميا، وهذا ما يتجنبه الكتاب الذين يبحثون عن مواضيع جاهزة وشخصيات سهلة التكوين واضحة المعالم والصفات، تتقبلها الجهات المنتجة التي تسعى الى كسب الارباح والانتشار السريع بالميلودراما والخلطات الخفيفة. ولأن السينما العربية، في الاربعينات وحتى منتصف الخمسينات، كانت استعراضية غنائية، تدور اغلب احداثها في الكباريهات ونوادي السهر وعلب الليل وزبائن هذه الاماكن هم من التجار والاقطاعيين ورجال الاعمال والمنتفعين منهم والطامعين فيهم لذا كانت شخصياتها تؤخذ من هذه البيئات لخلق صراعات وخلافات ومعارك بينهم تشكل ديباجة العمل السينمائي.
ولم تظهر شخصية المثقف بشكل واضح ومباشر الا في افلام الواقعية الاجتماعية، منتصف الخمسينات، ومن خلال الروايات الادبية لطه حسين، وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وغيرهم. فكانت شخصية الضابط علي في فيلم ( رد قلبي) اول صورة واضحة ومتميزة لشخصية المثقف الذي يبحث عن مجتمع العدل والمساواة. وتعتبر شخصية كمال في (قصر الشوق ) وشخصية علي طه في (القاهرة 30 ) وكلاهما لنجيب محفوظ من ابرز النماذج الدرامية للمثقف في السينما، وبينهما ـ وبعدهما ـ قدمت نماذج وصور عديدة للمثقف، فكان الرومانسي في افلام ( بين الاطلال، اذكريني، الرباط المقدس ) والداعي الى المحبة والسلام في ( عصفور من الشرق، المشاغبات والكابتن ) والساخر من الواقع والناس في ( ثرثرة فوق النيل، وخلي بالك من زوزو ) والمناضل ضد التخلف والفقر في ( ميرمار، والبريء وقاهر الظلام ) والمتمرد في ( الكرنك ) والمفكر في ( الارهابي ).. وغيرها. وبعد الانفتاح، في السبعينات، ظهر نموذج المثقف الوصولي والانتهازي ـ مثقف السلطة ـ بشخصية الكاتب المسرحي في فيلم ( الاختيار ) ليوسف شاهين.
اما في الدراما التلفزيونية فقد ظهرت شخصية المثقف في العديد من الاعمال المصرية والسورية ـ لاحقا ـ لكنها ظلت تراوح على الهامش دون ان تترك اثرا على الفئات الشعبية ـ التي تتابع تلك الاعمال عادة ـ او تصبح قدوة للشباب او الصغار.. وكأن الكتاب يتعمدون تهميش دور المثقف وتحجيمه ارضاء للسلطات المتنفذة او استجابة لهيمنة النزعة الاستهلاكية ـ العامة ـ الا ان صورة المثقف ظهرت بشكل واضح واخذت مداها ودورها المؤثر في اغلب اعمال الكاتب اسامة انور عكاشة الذي حول الدراما الاجتماعية الى اجتماعية ـ ثقافية والتي تعني بالمفهوم الشامل، ايصال او نشر الثقافة من خلال المشاهدة ـ بدل القراءة ـ ومن ابرز تلك الاعمال، ليالي الحلمية باجزائه الخمسة، وضمير ابلة حكمت و رحلة السيد ابو العلا البشري وغيرها.
ولم تهتم الدراما العراقية بشخصية المثقف الا في اعمال قليلة وفي فترات متباعدة.. اشهرها في اعمال الفنان يوسف العاني مثل ( صورة جديدة ) و ( الربح والحب ) حيث قدمه بصورته الايجابية، الرومانسية، المغيرة. لكن الدراما العراقية ظلت تتجنب الاقتراب من شخصية المثقف لحساسية دوره وتفرد صورته وحضوره الاجتماعي والادبي المؤثر، وكونه ـ غالبا ما ـ يرمز الى معارضة السلطة ورفض الاستبداد والدكتاتورية وقمع الحريات، لذا ابتعدت عنه الا ما ندر، حيث يظهر بأدوار ثانوية، معزولا، ضعيف الصوت، بدون تأثير على الاحداث.. ولو منح دور البطولة فسيضع شخصيته امام خيارين لا ثالث لهما، اما ان يكون معارضا ورافضا للواقع او متمردا عليه ـ حيث يكون مصيره السجن او النفي او الاعتزال ـ او انتهازيا يتملق السلطة. وهذا ما يتحاشاه القائمون على الدراما لأنه يضعهم في مواجهة ـ مزدوجة ومباشرة ـ مع المثقفين من جهة.. ومع السلطة التي تهيمن على مقومات الانتاج ووسائل الاعلام من جهة اخرى.
وبعد 2003 حاول بعض الكتاب الزج بشخصية المثقف في خضم احداثهم الدرامية، الا ان تلك المحاولات لم تكن موفقة وليست لصالح المثقف كما في مسلسل ( المواطن ج ) للكاتب فلاح شاكر الذي قدم نموذجا مروّعا بشخصية الاديب القاتل.. ثم قدم الكاتب حامد المالكي نموذجا آخر للمثقف السلبي ـ المهزوم ذاتيا ـ والذي لا يغيّر ولا يتغير في مسلسل ( الدهانة ). ولأن شخصية المثقف في الدراما العراقية تحشر من باب التنويع او المجاملة، وليس لضرورات الحدث الدرامي فتكون النتيجة، على الاغلب، شخصية هزيلة، ضعيفة البناء وخاوية فكريا.. كالنموذج الذي ظهر في مسلسل ( دنيا الورد).
وتظل صورة المثقف في الدراما، كما هي في الواقع، اما ملاحق او مطلوب او محاصر.. او في احسن الاحوال مهمش ومخنوق الصوت، ليبقى، وبشكل متعمد، منعزلا.. ضئيل التأثير.
وقد ادى عدم الاهتمام بالثقافة ـ عامة ـ وتهميش شخصية المثقف في الدراما ـ بكل انواعها ـ الى تدني الروح المدنية والحضارية في المجتمع واهدار لفرصة تاريخية وضرورة اجتماعية، في خلق رأي عام ثقافي وتيار عصري نهضوي يقف بمواجهة التخلف وظواهر التراجع الحضاري، كعودة القبلية والعشائرية ومحاولات فرض ثقافة اجتماعية منغلقة، تمنع تطور المجتمع وتعرقل تقدمه وازدهاره.