يقول الكابتن الرياضي المعروف كريم علاوي، المولود في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي - أطال الله في عمره ومتعنا بذاكرته - بأنهم كانوا يسكنون محلة السيمر بالبصرة القديمة وأن أمّه كانت تضع حاوية النفايات( تنكة) عند باب بيتهم الخارجي، فيأتي عامل البلدية بعربة يجرها حصان أو حمار، يقف عند بابهم صباح كل يوم ليأخذها في فعل حضاري بدائي ينمُّ عن وعيٍّ حقيقي بأهمية النظافة في الحياة آنذاك.
وحتى السبعينيات، كانت ضواحي البصرة تعدُّ من أجمل مناطق العراق فصورة شوارع وتقاطعات المعقل والأصمعي والجنينية والطويسة وبريهة وغيرها كانت من أجمل ما يكون، ومثلها كانت الكثير من المدن العراقية نتيجة لشعور الناس عامة بأن النظافة فعل حضاري، يليق بالإنسان المتمدن، وهي من موجبات ديمومة الحياة، بعيدا عن الأمراض والأوبئة، غير أن ذلك لا يتم عبر قناة شركة التنظيف او البلدية إنما هي معادلة متوازية طرفاها المواطن وعامل النظافة، وهذا ما معمول به في جميع بلدان العالم.
شاهدتُ قبل أيام وعلى مواقع التواصل عدداً من سكان ضاحية في إحدى الدول وهم يحملون أكياس النفايات، في طابور صباحي جميل ويلقون بها في سيارة البلدية، بمعنى أنْ لا حاويات في الشوارع، ورأيت في إحدى زياراتي لإحدى الدول أيضا أنْ لا وجود لعامل النظافة في الشوارع، إنما هي سيارة حديثة تمرُّ ليلاً بمكنستها على المدينة لتغسلها بالماء المعطر. ويتحدث زائرو الجارة إيران كيف انهم إذا زاروا الأماكن المقدسة والسياحية هناك يكونون ملتزمين بعدم رمي نفاياتهم من طعام وشراب بما فيها أعقاب السجائر في الشارع، بل ويمنعهم البستانيُّ في الحديقة العامة من المرور على العشب، فهو يجبرهم على سلوك الطريق المحاذي لها، في حرص على ديمومة اخضرار العشب .
بمفهوم عام، النظافة سلوك فطري قبل أن تكون من أفعال الحياة الأخرى، لأن الإنسان، أيَّ إنسان يرفض بطبيعته وفطرته العيش في المكان الوسخ، وهو يحاول ان يظهر بالمظهر اللائق مع الناس، لذا يعتني بنظافة جسده ومظهره الخارجي بما فيه الحذاء. ويُعيب الجيران فعل جارهم إذا كان غير مهتم بنظافة منزله من الداخل ومن الخارج أيضا ، لكن ذلك لا يعني أن يتحمل المواطن تبعات القضية بمفرده إذا كانت الحكومة لم تعد العدة لذلك، ولم تعمل على توفير مستلزمات رفع النفايات مثلاً.
وقد لا نأتي جديداً اذا ما قلنا بأن الدولة الحالية، وهي إسلامية العقل في الغالب لم تعمل على جعل قضية النظافة - ولا نقصد أعمال البلدية - من مقاصدها الأولى، ذلك لأن مفهوم النظافة عندها ما زال ناقصاًً. فأدبياتها وخطباؤها وإعلاميوها يتحدثون عن أهمية إسباغ الوضوء وغسل الجنابة وطهارة ثوب الصلاة دونما الخوض في أهمية الوعي العام الخاص بنظافة المدن والشوارع والأسواق، لذا نجد أن صاحب المتجر الضخم يتوضأ لصلاته بإبريق الماء أمام باب متجره وسط أكوام النفايات في الشارع وعلى مرآه تقع بركة الماء الوسخ لكنه لا يجد الحرج والقبح والتخلف في ذلك!
هل نقول بأن مفهوم النظافة وأهمية رفع النفايات قضية لم تكمل في العقل العراقي البسيط بعد؟ هناك مَن يُلقي باللائمة كاملة على الحكومة ويطالبها بنظافة الشارع والساحة والسوق لكنه يسرق حاوية النفايات التي أمام بيته أو يعبث بها!
نحن أمة لا تتمتع بثقافة سياحية، والوطن عندنا لا يتجاوز بمفهومه حدود ما مكتوب في بطاقة الأحوال الشخصية، لذا ما يعوزنا جميعاً هو التفكير بأهمية ووجوب إظهار المدينة بالمظهر اللائق والعودة بها الى سابق عهدها كمدينة متحضرة، يدخلها السائح ويزورها المستثمر ويُقيم فيها مَن يبحث عن الرخاء والكرامة والعيش الآمن.
وعلى وفق ذلك نعتقد بأن التشريع الصحيح وتفعيل القوانين الرادعة تحديدا والحث المستمر عبر وسائل الإعلام على النظافة أسباب لا بـدَّ من توافرها في أي مجتمع. كما نعتقد أيضا بأن المواطن الذي يعيش في بيئة نظيفة - مهما تدنت درجة وعيه - سيتفادى رمي علبة المياه الفارغة او قطعة المنديل الورقية في الشارع أو المكان النظيف. هناك شعور خفي يُجبره على احترام المكان النظيف والناس معا، لذا نجده حين يسافر يسلك سلوك الأسوياء هناك، بما فيه النظافة والالتزام بقواعد المرور والتعامل المتحضر مع الناس.
تعالوا نُحبُّ البصرة نظيفة
[post-views]
نشر في: 10 أكتوبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...