TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحيله الـ 42..بابلو نيرودا:لم أعتقد يوماً أنَّ حياتي منقسمة بين الشعر والسياسة

في ذكرى رحيله الـ 42..بابلو نيرودا:لم أعتقد يوماً أنَّ حياتي منقسمة بين الشعر والسياسة

نشر في: 12 أكتوبر, 2015: 12:01 ص

 مرت قبل أيام الذكرى الثانية والأربعون لرحيل شاعر تشيلي الكبير  بابلو نيرودا ، وبهذه المناسبة  نقدم هذا الحوار الذي أجرته  معه مجلة (باريس ريفيو) في كانون الثاني 1970 ،قبل فترة قصيرة من إعلانه الانسحاب من ترشحه للرئاسة عن الحزب ال

 مرت قبل أيام الذكرى الثانية والأربعون لرحيل شاعر تشيلي الكبير  بابلو نيرودا ، وبهذه المناسبة  نقدم هذا الحوار الذي أجرته  معه مجلة (باريس ريفيو) في كانون الثاني 1970 ،قبل فترة قصيرة من إعلانه الانسحاب من ترشحه للرئاسة عن الحزب الشيوعي التشيلي لصالح المرشح اليساري سلفادور ألليندي الذي فاز في ما بعد في الانتخابات ،وأصبح رئيسا لتشيلي إلى أن أطاح به الانقلاب العسكري في عام 1973،وتشير المجلة في بداية الحوار إلى عبارة قالها نيرودا إبّان حملته الانتخابية "أنا لم أعتقد أبداً أنّ حياتي منقسمة بين الشعر والسياسة"،والحوار جرى في منزل الشاعر المطل على البحر في تشيلي.

س: لماذا غيّرت اسمك؟ ولماذا اخترت بابلو نيرودا؟
ج: لا أتذكرفي الحقيقة لماذا. كنت حينها في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري. أتذكر أن أبي كان منزعجا كثيرًا حينما أعربت له عن رغبتي بالكتابة. وحتى حين كان في أشد حالاته هدوءاً كان يعتقد أن الكتابة ستدمرني وتدمر العائلة. نطاق تفكيره الضيق كان يدعوه لاتخاذ مثل ذلك الموقف، وبالنسبة لي فلم اكن اقيم وزنا لمثل ذلك النمط من التفكير ،. لذلك كان تغيير اسمي هو إحدى الوسائل الدفاعية التي تبنيتها.
س: هل اخترت اسم نيرودا تيمنًا بالشاعر التشيكي: جان نيرودا؟
ج:كنت قد قرأت قصة قصيرة لذلك الشاعر. لم أقرأ شعره من قبل، لكن كان لديه كتاب اسمه “قصص من مالا سترانا”، وهو يحكي عن أولئك الناس البسطاء، الذين يقطنون حيًا بنفس الاسم في براغ. من المحتمل أن اسمي الجديد قد أتى من هناك. ومع ذلك، فإن التشيكيين يحسبونني واحدًا منهم، واحدًا من ابناء وطنهم، وقد كانت لي معهم لقاءات لطيفة أكثر من مرة.
س: كيف يتفاعل الناس معك عندما تقرأ قصائدك؟
نيرودا: إنهم يحبونني بعاطفة جياشة. في بعض الأحيان لاأستطيع الدخول أو الخروج من بعض الأماكن. لدي مرافقون خاصون يحمونني من الحشود، وذلك بسبب ان الناس تحاصرني. وكان ذلك يحدث في كل مكان.
س: لو قيّض لك أن تختار بين رئاسة تشيلي وجائزة نوبل، التي رشحت لها أكثر من مرة، فماذا ستختار؟
نيرودا: هذا سؤال فيه خيارات بين شيئين مختلفين لدرجة كبيرة.
س: افترض أننا وضعنا رئاسة تشيلي و جائزة نوبل هنا على هذه الطاولة ماذا ستفعل؟
ج: في تلك الحالة سأقوم وأذهب إلى طاولة أخرى.
س:هل تعتقد أن منح جائزة نوبل لصموئيل بيكيت كان أمرا عادلا؟
ج:نعم، أعتقد ذلك. بيكيت يكتب أشياء قصيرة ولكنها رائعة. جائزة نوبل، لأي شخص تعطى ، هي دائما شرف كبير للاديب. أنا لست واحدا من هؤلاء الذين يجادلون دائما ما إذا كانت الجائزة من نصيب الشخص المناسب أم لا. ما هو مهم في ما يتعلق بهذه الجائزة، إذا كان لذلك أي أهمية، هو أنها تمنح عنوان مجد واحترام للكاتب. هذا هو المهم.
س: ما أهم ذكرياتك؟
ج: لا أعلم. لعلّ أهم ذكرياتي هي حينما عشت في إسبانيا، في ذلك التجمع الرائع من الشعراء و كانت تسود بينهم علاقات أخوية. لم أعرف مجموعة من الشعراء في أمريكا اللاتينية إلا وقد تنازعتها الخلافات والشائعات المغرضة،. بعد فترة من العيش هناك، كان من الفظيع أن نرى تجمعا رائعا من الأصدقاء بهذا الحجم تمزقه الحرب الأهلية، مما اظهر الوجه البشع للحكم الفاشي. تفرق أصدقائي: منهم من قتل كغارثيا لوركا وميغيل هرنانديز، ومنهم من توفي في المنفى . حياتي بالمجمل غنية بالذكريات، وبالمشاعر العميقة، وكل منهما أثر في حياتي بشكل أو آخر.
س: تنبأتْ قصيدتك الغنائية، التي كتبتها عن غارسيا لوركا، بنهايته المأساوية.
ج: نعم، كانت تلك القصيدة عجيبة. عجيبة لأن لوركا كان شخصًا سعيدًا. وبالفعل، كان مخلوقًا مبتهجًا ومرحاً. عرفت القليل من الناس بمثل سجيته، وكان هو تجسيدًا لـ ….. حسنًا، لاأقول للنجاح، ولكن لحب الحياة. لقد استمتع بكل دقيقة من حياته. هو مسرف في سعادته. ولذلك السبب، كانت جريمة إعدامه واحدة من أبشع جرائم الفاشية التي لايمكن ان تُغتفر.
س: كانت هناك علاقة حب رائعة بينك وبين جوزي بليس، التي كنت تذكرها دومًا في قصائدك.
ج: نعم. كانت امرأة تركت بصمة عميقة في شعري. لطالما تذكرتها، حتى في كتبي الاخيرة.
س: إذاً شعرك يرتبط كثيرا بحياتك الشخصية؟
ج: هذا أمر طبيعي. يجب أن تنعكس حياة الشاعر على قصائده. هذا قانون الإبداع، وقانون الحياة.
س: هل يمكن تقسيم شعرك إلى مراحل ؟
ج: أفكاري حول هذا الموضوع مشوشة الى حد ما . بالنسبة لي شخصيا لا استطيع تحديد تلك المراحل ؛ من يحددها هم النقاد. إذا أمكن لي قول أي شيء، فيمكنني القول بأن قصائدي الشعرية لها نفس ميزاتي ككائن حي: فهي بدائية حينما كنت صغيرًا، طفولية حينما كنت شابًا، يائسة حينما كنت أعاني، وثورية حينما انخرطت في النضال الاجتماعي. يحضر خليط من هذه الحالات في قصائدي الحالية. دائما كنت اكتب بدافع داخلي، وأعتقد بأن هذا الأمر يحدث لجميع الكتاب، الشعراء خصوصًا.
س: كيف تكون ساعات عملك؟
ج: ليس عندي جدول معين ألتزم به، ولكني أفضّل الكتابة في الصباح. وهذا يعني أنه لولا تواجدك اليوم وإضاعتك لوقتي و(إضاعتك لوقتك) لكنت الآن أكتب. لاأقرأ أشياء كثيرة خلال اليوم، بل أفضّل الكتابة طوال اليوم، ودائما يحدث ان اكتمال فكرة ما، اوتعبير ما، أو انبثاق شيء ما من داخلي بطريقة صاخبة وعاصفة – دعنا نسميه الإلهام – يجعلني راضيًا ، أو مرهقًا ، هادئًا، أو خاوياً، إلى أن أصل لحالةٍ لا أستطيع معها الاستمرار في الكتابة. بعيدًا عن ذلك،انا ارغب ان أعيش صخب الحياة بدلا من أن أكون طوال اليوم جالسًا الى المكتب. انا ارغب بان أضع نفسي في معترك الحياة، في منزلي، في السياسة، أن أبقى في الطبيعة. أن أبقى في حركة دائمة. ولكني أكتب بشكل مكثف متى ما استطيع وحيثما استطيع. و حينما يكون كثير من الأصدقاء حولي وأنا أكتب فان الامر لا يزعجني اطلاقا.
س: هل تعزل نفسك عما يحيط بك أثناء الكتابة؟
ج: نعم. ولكن الهدوء التام يستفزني ويزعجني.
س: أنت لم تهتم أبدا بالنثر.
ج: النثر…. طوال عمري، لم أشعر بضرورة التعبير عن نفسي إلا بالشعر. لم يهمني يومًا أن أعبر من خلال النثر. أكتب النثر حينما يجتاحني شعور معين، أو في مناسبة معينة تستدعي السرد. الحقيقة أنه يمكنني أن أستغني عن كتابة النثر للأبد، ولكنني أكتبه بشكل مؤقت.
س: ديوان (عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة) هو أحد دواوينك المبكرة، ولايزال يقرأ حتى الآن عن طريق الآلاف من المعجبين منذ طباعته أول مرة.
ج: كتبت في مقدمة الطبعة الجديدة، التي تحتفي بصدور مليون نسخة من ذلك الكتاب – بالمناسبة، سيبلغ عدد النسخ مليونين قريبًا – بأني لاأفهم لماذا يحدث كل هذا الاحتفاء. لماذا لايزال الناس يقرأون الكتاب الذي يحتوي حزن الحب، ووجعه، خصوصًا من قِبل الشباب. بكل صراحة، لاأستطيع فهم ذلك. ربما يمثل طرحاً شبابياً للعديد من الألغاز، وربما يجاوب عليها. هو كتاب كئيب، ولكن جاذبيته لاتنتهي.
س: ما أنواع الكتب التي تقرؤها ؟
ج: أنا قارئ للتاريخ، خصوصًا تلك الكتب التي تتناول احداثا تاريخية قديمة، من تاريخ بلادي. لدى تشيلي تاريخ متفرد. ليس بالطبع بسبب منمنمات الآثار القديمة، التي لاتوجد هنا، بل لأن شاعرًا ابتكر هذه البلاد، وهو العظيم ألونسو دي إيرثيلا زونيغا، الذي عاش في زمان كارلوس الخامس. كان أرستقراطيًا باسكيًا ممن وصل مع الغزاة الأوائل لإسبانيا، وهذا أمر غريب بما أن أغلب من أرسل إلى تشيلي يكون من المحاربين. كان ذلك المكان هو أسوأ مكان يعيش فيه المرء. جرت الحرب بين الأراكونيين والإسبان هنا لعدة قرون، وكانت أطول حربٍ أهلية في تاريخ البشرية. قاتلت تلك القبائل نصف الهمجية لأجل حريتها ضد الإسبان مدة ثلاث مئة سنة. قدم زونيغا، ذلك الشاب الإنساني، مع أولئك القادة الذين أرادوا أن يحكموا كل القارة، ونجحوا في ذلك، باستثناء هذا الشريط الضيق المسمى تشيلي. كتب ألونسو ملحمة تدعى لا أراوكانا، وهي أطول ملحمة في الأدب القشتالي، وقد شرف فيها قبائل أراوكانيا المجهولة. أولئك الأبطال المجهولين، والذي منحهم ألونسو أول اسم لهم، قد مدحهم ألونسو أكثر من بني جلدته، المقاتلين القشتاليين. نشرت لا أراكونيا في القرن السادس عشر، وترجمت عن القشتالية، وانتشرت كالهشيم في أنحاء أوروبا. يالها من ملحمة رائعة لشاعر عظيم. حازت تشيلي ذلك التاريخ العظيم والبطولي منذ نشأتها. لم ننحدر نحن التشيليون، كما انحدر عدة أقوام مهجنة من الاسبان والهنود الأمريكيين، من جنود إسبانيين عن طريق الاغتصاب والتنكيل، ولكن عن طريق زواج طوعي أو قسري للأراكونيين مع سبايا إسبانيات خلال سنين الحرب الطويلة. نحن استثناء. بالطبع، يلي ذلك مرحلة استقلالنا الدموي منذ 1810. تاريخ مليء بالمآسي، والاحتجاجات، والكفاح تحت قيادة أسماء مثل سان مارتين، بوليفار، خوسيه ميغيل كاريرا وأوهيجنس، من خلال صفحات طويلة من النجاحات والإخفاقات. كل ذلك يجعلني قارئًا لتلك الكتب التي أنفض عنها الغبار، والتي تثيرني وتلهمني إلى أقصى حد. تجعلني تلك الكتب نائيًا عن الجميع، أعاني البرد هناك، ضمن خطوط عرض بلادي وصحرائها. سبخاتها في الشمال، وساحلها المزهر، وجبال الانديز الثلجية. هذه بلادي، تشيلي. أنا ممن ينتمون لهذا البلد حتى الفناء، الذي لايمكن أن أتركه للأبد، مهما عوملت بالحسنى في بلاد أخرى. أحببت مدن أوروبا الكبرى، وأقدر وادي آرنو، وشوارع معينة في كوبنهاجن وستوكهولم، وبالطبع باريس، باريس، باريس، ومع ذلك سأبقى مشتاقًا للعودة إلى تشيلي.
س: يتهمك بعض الناس بالعدائية تجاه خورخي لويس بورخيس.
نيرودا: ربما يتخذ ذلك العداء منحى ثقافيًا أو فكريًا نظرًا لتوجهاتنا المختلفة. يستطيع الواحد منا أن يحارب بهدوء، لكن لدي أعداء آخرون عدا الكتاب. بالنسبة لي، فعدوّي هو الإمبريالية، وأعدائي هم الرأسماليون ومن ألقوا بقذائف النابالم على فيتنام. لكن بورخيس ليس عدوّي.
س: مارأيك بكتابات بورخيس؟
ج: إنه كاتب عظيم. وكل من يتكلم الإسبانية يفخر بتواجد شخص مثله على رأس هرم أمريكا اللاتينية. كان لدينا القليل من الكتاب الذين يمكن مقارنتهم بالأوروبيين قبل بورخيس، ولكن لم يكن لدينا كاتب بهذه المقروئية العالمية قبله. لاأستطيع أن أقول بأنه الأعظم، وأرجو أن يتجاوزه الكثير، ولكنه بطريقة ما فتح الطريق وجذب اهتمام أوروبا الأدبي نحو بلداننا. لكن بالنسبة لي، فلن أستعدي بورخيس لمجرد أن الآخرين يودون ذلك. إذا كان يفكر كديناصور، حسنًا، فإنه لن يتعارض مع تفكيري. هو لايفهم شيئًا مما يجري في العالم المعاصر، وهو يعتقد بأني لاأفهم شيئًا كذلك. إذًا، نحن على وفاق.
س: من هم الشعراء الروسيون الذين تفضّلهم؟
نيرودا: لعلّ الرمز المهيمن على الشعر الروسي هو ماياكوفسكي، مثل بثورته لروسيا مامثله والت ويتمان في أمريكا الشمالية. لقد تشرب الشعر حتى أن كل قصائده استمرت كونها ماياكوفسكية، وتستطيع أن تعرف ذلك من أول قراءة.
س: ماالنصيحة التي تسديها للشعراء الشباب؟
ج: أوه، لاتوجد نصيحة للشعراء الشباب! يجب عليهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم؛ يجب عليهم أن يواجهوا العقبات لكي يعبّروا عن أنفسهم بشكل صحيح ويتغلبوا عليها. مالا أنصحهم به أبدًا هو أن يبدأ الواحد منهم بالشعر السياسي. الشعر السياسي أعمق في مشاعره من أي نوع – على الأقل بقدر حب الشعر – ولايمكن كتابته وأنت مجبر، لأنه سيخرج بشكل مبتذل وغير مقبول. يجب عليك أن تبدع في كل ألوان الشعر وأغراضه لكي تكتب شعرًا سياسيًا. ويجب عليه أن يتلقى الانتقادات بصدرٍ رحب حول خيانته للأدب أو خيانته للشعر. وأيضًا، يجب أن يتسلح الشعر السياسي بغنى المحتوى وغنى العناصر، وبالثراء الفكري والعاطفي، من أجل أن يترفع عن أي شيء آخر. وهذا نادرًا مايتحقق.
س: دائمًا ماتقول أنك لاتؤمن بالأصالة.
ج: أن تبحث عن الأصالة في كل القيم هو شرط حداثي. في أيامنا، كان الشاعر يريد أن يجلب الاهتمام لنفسه، وهذا الانشغال السطحي يقضي على خصائصه الفريدة. كل شخص يحاول أن يجد طريقًا يبرز فيه، لا من أجل العمق أو الاكتشاف، ولكن لأجل التنوع. أكثر الفنانين أصالة ستجده يغير مراحل عمله لكي يجاري الزمان والحقبة التي يعيش فيها. أكبر مثال على ذلك هو بيكاسو، الذي بدأ بتأسيس فنه عن طريق النحت والرسم في أفريقيا أو الفنون البدائية، ثم وجد طريقه الخاص وتحول بقوة جعلته الآن أحد المعالم الثقافية لعالمنا المعاصر.
س: ماهي التأثيرات الأدبية على بابلو نيرودا؟
ج: يتبدل الكتاب في دواخلهم بطريقة ما، كما أن الهواء الذي نتنفسه لاينبع من مكان واحد. تنقل الكاتب الداخلي أشبه بتنقله من منزل لآخر: يجب عليه أن يغير الأثاث. يرتاح بعض الشعراء مع ذلك. أذكر فيدريكو غارسيا لوركا حينما كان يسألني دومًا أن أقرأ سطوري وقصائدي، كان يطلب مني التوقف دومًا في منتصف قراءتي وهو يقول:" توقف، توقف! لاتكملْ، كي لاتؤثر علي."
س: لنتحدث حول نورمان ميلر. كنت من أوائل الكتاب الذين تحدثوا عنه.
ج: بعدما صدرت رواية ميلر بفترة وجيزة، المسماة بـ"العاري والميت"، وجدتها في مكتبة بالمكسيك. لم يعلم أحد بأمرها، وحتى صاحب المكتبة لم يعلم شيئًا عنها، كان دافعي الوحيد لشرائها هو أنني على وشك رحلة، وأود قراءة رواية أمريكية جديدة. ظننت بأن الرواية الأمريكية ماتت بعد العظام الذين بدأوها، الذين بدأوا بدرايزر، وانتهوا بهيمنغواي وشتاينبك وفولكنر. لكني اكتشفت كاتبًا عظيمًا آخر، بألفاظ عنيفة، ومشتبكة بدقة مع قدرة عظيمة على الوصف. لطالما أعجبت بشعر باسترناك، ولكن روايته دكتور زيفاجو تعد مملة إذا ماقارناها بالعاري والميت، ماعدا وصفه الشاعري للطبيعة. أتذكر في ذلك الوقت أنني كتبت قصيدة بعنوان "لتستيقظ فواصل السكك الحديدية"، وتلك القصيدة التي استدعيت فيها شخص لينكولن، كانت مخصصة للسلام العالمي. كتبت فيها عن أوكيناوا والحرب في اليابان، وذكرت أيضًا نورمان ميلر. وصلت قصيدتي إلى أوروبا وتمت ترجمتها، وأتذكر بأن المترجم قال لي بأنه عانى كثيرًا ليعرف من يكون نورمان ميلر هذا. لم يعرفه أحد في الواقع، ولا أزال أشعر بالفخر كوني من أوائل الكتاب الذين اكتشفوه.
س: هل يمكنك التعليق على تأثرك العميق بالطبيعة؟
ج: منذ طفولتي، حافظت على مشاعري العميقة تجاه الطيور والأصداف والغابات والنباتات. ذهبت لأماكن عديدة من أجل أن أرى أصدافًا بحرية، وقد جمعت الكثير منها. كتبت كتابًا بعنوان "فن الطيور"، كتبت عن الحيوانات المنقرضة، الزلازل البحرية، وحتى "زهرة العشّاب". لاأستطيع العيش بعيدًا عن الطبيعة، ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات، أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء.
س: هناك رموز تتكرر دائمًا في قصائدك، وهي تأخذ على الدوام شكل البحر والأسماك والطيور....
ج: لاأؤمن بالرموز. إنها بكل بساطة أشياء كما هي. حينما أقول البحر مثلًا فأنا أعنيه دون أي معنى آخر. ظهور بعض الثيمات في قصائدي هو ظهور مادي لاأكثر.
س: مادلالات كل من الحمامة والغيتار في شعرك.
ج: الحمامة تدل على الحمامة، والغيتار يدل على آلة موسيقية تدعى الغيتار.
س: إذاً، فأنت تعني أن من يحاول تفسير تلك الأشياء بغير ماهي ....
ج: عندما أرى حمامة، فإني أسميها حمامة. الحمامة، سواء كانت موجودة أم لا، لديها شكل بالنسبة لي، سواء بذاتها أو شكل موضوعي، ولكنها لاتتجاوز كونها حمامة.
س: قلت عن ديوانك "إقامة على الأرض" مرة بأنه "لايساعد المرء على الحياة، بل يساعده على الموت."
ج: مثّل ذلك الديوان لحظة مظلمة وخطيرة في حياتي. كان شعرا ليس له مخرج. كنت أحتاج إلى أن أولد من جديد فقط لكي أتجاوز تلك المرحلة. تم إنقاذي من ذلك اليأس الذي مازلت أجهل عمقه، والذي خلفته الحرب الأهلية الإسبانية، وعدة مناسباتٍ أخرى جعلتني أتأمل. قلت مرة بأنه لو كانت لدي السلطة والقوة، لمنعت انتشار ذلك الكتاب، ولخططت لعدم طبعه مرة أخرى. إنه يضخم الشعور بالحياة كعبء مؤلم، وكشعور قاتل. ولكني أعرف بأنه من أفضل كتبي، وذلك لأنه يعكس حالتي الذهنية. مع ذلك، حينما يكتب الواحد منا – ولاأعلم إن كان ذلك ينطبق على بقية الكتاب – فهو يفكر ماإذا كانت كلماته ستحط على الأرض. كتب روبرت فروست في إحدى مقالاته بأن الألم هو وجهة الشعر الوحيدة: "دعوا الألم وحده مع الشعر". لكني لاأعلم ماسيفكر به لو رأى شابًا منتحرًا ودماؤه تنزف على أحد كتبه. حدث هذا الأمر لي: انتحر شاب بجانب أحد كتبي، وكان مليئًا بالحياة حسب مايقال عنه. لا أشعر حقيقة بالذنب لمقتله، ولكن مرأى تلك الصفحة الملطخة بالدماء لاتجعل ذلك الشاعر يفكر، بل كل الشعراء... بالطبع، سعد أعدائي بهذا الأمر – كما يفعلون دومًا معي – واستفادوا سياسيًا جراء لومي في بلادي، مما أشغل رغبة فيّ لكتابة شعر متفائل وسعيد. هم لم يعرفوا بذلك الأمر، ولم يسبق لي أن تخليت عن شعوري بالوحدة والألم والسوداوية بسبب ذلك الحادث. لكنني أحببت تغيير نبرة قصائدي، أحب أن أجد كل الأصوات، وأطارد جميع الألوان، وأبحث عن قوى الحياة أينما كانت، سواء بنّاءة أو مدمرة.
مرّ شعري بجميع المراحل التي مرت بها حياتي؛ منذ الطفولة الوحيدة وحتى العزلة في البلاد النائية البعيدة، عزمت على أن أجعل من نفسي جزءًا من هذه الإنسانية العظيمة. نضجت حياتي، وهذا كل مافي الأمر. لقد كان نمط الشعراء السائد في القرن الماضي أن يكونوا سوداويين كئيبين، ولكن من الممكن أن يتواجد شعراء ممن يعرفون الحياة ومشاكلها، ويستطيعون العيش من خلال التعايش مع الحاضر. والعبور من خلال الحزن نحو السعادة والرضا التام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المالية النيابية: كلفة استخراج النفط من كردستان تصل 22 دولاراً

في رد رسمي.. محافظ بغداد يرفض قرار الإحالة إلى التقاعد

الدرجات الخاصة المصوت عليهم في البرلمان اليوم

نص قانون التعديل الأول للموازنة الذي أقره مجلس النواب

بالصور| أسواق الشورجة تستعد لإحياء "ليلة زكريا"

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram