في سنوات فرض العقوبات الاقتصادية على العراق ، لجأ اصحاب الحرف والمهن الى ابتكار وسائل تعين عباد الله من ذوي الدخل المحدود على مواجهة صعوبة الظروف المعيشية بالتخفيف عن معاناتهم بتلبية حاجاتهم بتجديد ملابسهم القديمة . في احد الاسواق الشعبية بالعاصمة اتخذ الخياط جاسم من الرصيف مكانا لتقديم خدماته الجليلة للزبائن ، خاصة الشباب منهم ، فهو يستطيع ان يقلب قماش بنطرون الزبون ، مقابل ملبغ قليل ، يمنح الشاب امتياز الحصول على سروال جديد بطريقة الخياط المالكي ، فاستحق الدخول الى موسوعة غينيس للأرقام القياسية باخضاع الملابس القديمة الى شروط ما بعد الحداثة ، وباسمه سجلت اول براءة اختراع باجراء عملية تحويل بطانيات الجيش الى قماصل شاع استخدامها في عقد التسعينات بين اوساط الشباب للتعبيرعن رفضهم للحصار الجائر ، الشعار السائد في تلك السنوات العجاف .
حقق الخياط شهرة واسعة في احياء العاصمة ، ابتكاره تحول الى مصطلح متداول بين الاوساط الشعبية فما ان يقول احدهم "بنطرون جاسم" حتى يفهم السامع ان القول يتضمن الاشارة الى جهود الخياط في انقاذ الشباب من تكاليف دفع مبلغ كبير لشراء سروال جديد ، يجعل ميزانية اسرة الشاب تصاب بعجز مزمن ، لان اباه الموظف الحكومي يتقاضى راتبا شهريا لا يتجاوز ثلاثة الاف دينار ، فيما بلع سعر الكيلو غرام الواحد من لحم الغنم الفي دينار . تحت قسوة هذه المعادلة المرعبة ، كان الموظفون والمتقاعدون ، يقفون ساعات طوال في طوابير امام الاسواق المركزية لشراء حاجة وبيعها للحصول على موارد مالية تسعفهم في شراء بطيخة .
في الطوابير الطويلة امام الاسواق المركزية كان الحديث عن معاناة العوز يأخذ في بعض الاحيان استذكار احداث طريفة لا تخلو من تعبير خفي عن حجم المأساة ، فيذكر احد الواقفين من جماعة بنطرون جاسم ، ان مصلحة نقل الركاب قررت الغاء الارقام المكتوبة على القماش واستبدالها بقطع معدنية ، منحت منتسبيها حق الحصول على القماش ، ففصلوه ملابس داخلية ، من خام الشام تحمل الارقام المكتوبة باللون الاحمر ، بعد ان ينهي الراوي سرد الطرفة حتى يضيف الاخرون التعليقات والتفسيرات مع حرص شديد على الابتعاد عن اي تلميح يحمل دلالة تعبيرعن استياء وتذمر من انخفاض مستوى الدخل .
الحكومة العراقية اعلنت مؤخرا سعيها لبحث امكانية مشاركة القطاع الخاص في تجديد نشاط شركات التمويل الذاتي في بعض الوزرات وتحويلها من خاسرة الى رابحة ، في اطار الاصلاحات الاقتصادية لضمان الحصول على موارد اضافية لموازنة الدولة ، فضلا عن تحقيق الترشيق ومعالجة الترهل الاداري في مؤسسات عجزت عن توفير المستحقات المالية الشهرية لموظفيها.
الخياط جاسم غادر الحياة في عام 2005 ، نتيجة اصابته بجروح بليغة جراء انفجار سيارة مفخخة ، ابتكاره في تجديد السروال بطريقة حملت اسمه ، لم ينقلها الى احد ابنائه ، ليعيد نشاطها في ضوء استمرار الازمة المالية بانتاج بنطرون التقشف .
بنطرون التقشف
[post-views]
نشر في: 13 أكتوبر, 2015: 09:01 م