للاسبوع الثاني، تواصل دوائر صنع القرار والمجتمع السياسي في الولايات المتحدة حيرتها بشأن تقييم التدخل الروسي في سوريا والمنطقة. فقد ازدحمت الصحافة الاميركية بردود افعال متباينة حول مغامرة بوتين في بلاد الشام وتأثيراتها على توازن القوى في منطقة الشرق الاوسط والعالم.
من ابرز الذين علقوا على الانخراط الروسي في القضية السورية، هما كل من كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الاميركية السابقة، وروبرت غيتس، وزير الدفاع الاسبق حتى 2011. وعلى الرغم من ان المقالة المشتركة تعكس، بشكل كبير، الرؤية الجمهورية التي تطالب الرئيس اوباما بالخروج من تردده ازاء ازمات الشرق الاوسط، لا سيما فيما يتعلق بتنامي تهديد داعش، والعمل على خلق حقائق على الارض من خلال التدخل المباشر على الارض.
لكن المقالة في الوقت ذاته تضمنت اعترافا مبطنا بوجود مقاربة مختلفة للتدخل في المنطقة تتقاطع، بشكل جذري مع المقاربة الاميركية، التي يحرص على تبنيها الجمهوريون والديمقراطيون وان باشكال متفاوتة، كما تتضمن المقالة اعترافا غير مباشر بفشل الاخيرة.
ويكتب الوزيران رايس وغيتس "علينا رفض الحجة القائلة إن بوتين يتصرف كرد فعل على حالة الاضطراب والفوضى السائدة في العالم حالياً، وأن ما يقوم به في الوقت الراهن يهدف إلى المحافظة على منظومة الدولة في الشرق الأوسط"، واضافا "فما قام به بوتين في حقيقته، هو محاولة لملء الفراغ الناشئ عن التردد الأميركي في الاشتباك مع الأوضاع في دول مثل ليبيا، وترددها في استكمال مهمتها في العراق".
ويبدو واضحا من النص اعلاه، محاولة الوزيرين الجمهوريين القفز على الحقائق التي خلفها التدخل الاميركي في العراق وليبيا تحديدا، والذي اسفر عن تفتيت الدولة وتفكيك ما كان متماسكا تحت حكم ديكتاتورية صدام والقذافي. ويعود الانكار الجمهوري بالاساس الى محاولة الهرب من تحمل المسؤولية الاخلاقية عما وصلت اليه المنطقة من انقسامات عرقية وطائفية انتهت بظاهرة داعش التي يتم تسويقها، اميركيا، كافراز للاستبداد واحتكار السلطة وتغييب المكونات، وليس كثمرة لتدمير الدولة في اكثر من بلد.
على ان تفتيت بناء الدول والتعاطي معها على اساس المكونات والهويات الفرعية لم يكن نهجا يقتصر حضوره على خطاب متطرفي "المحافظين الجدد"، فهذا الكاتب توماس فريدمان، المقرب من الرئيس اوباما، يتعكز على الصراع الطائفي في المنطقة واضعا الاندفاع الروسي في اطاره، عبر مقالته الاخيرة التي نشرت في صحيفة نيويورك تايمز.
وفي معرض الدفاع عن رؤية اوباما بالابتعاد عن مشاكل المنطقة، يدعو فريدمان، منتقدي الاخير، الى ترك الرئيس الروسي بوتين "فوق الشجرة" لمدة شهر. ومن ثم يعود ليقول ان "السماح لبوتين بضرب تنظيم الدولة ودعم الرئيس السوري بشار الأسد، يعني انه يستعدي كل مسلم سني في منطقة الشرق الأوسط"، ويضيف ان "المسلمين السنة يشكلون الأغلبية الساحقة في سوريا، وهم الطائفة المهيمنة في العالم العربي، وسينظرون إلى بوتين روسيا على أنه حامي حمى الأسد، مجرم حرب علوي، شيعي موالي لإيران، وسينفّر بوتين منه عالم المسلمين السنة بأسره، بما في ذلك المسلمين الروس".
وتعكس المقالتان تطابق الرؤيتين الجمهورية والديمقراطية في مقاربة ازمات المنطقة على اساس تفكيكها الى مكونات ما قبل الدولة، واستحضارهذه الاجزاء بطريقة استشراقية فجة لحظة التفكير بحلول عادة ما تفضي الى توسيع الازمة وتفاقمها لا معالجتها!
واذا ما وضعنا جانبا الانظمة الديكتاتورية المدانة بدورها بكل تأكيد ووضوح، فان منطقتنا تشهد صراعاً محموماً بين مشروعين، ينتصر الاول للدولة بوصفها الاطار الوحيد للتنوع الاثنوطائفي، وبين مشروع يضع المكونات في مرتبة اعلى من الدولة التي تساعد هشاشاتها المزمنة على تحولها الى دويلات متصارعة متقاتلة ومفلسة حتى لو امتلكت ثروات العالم تحت اراضيها.
وسط هذا الانقسام والاستقطاب الدولي في منطقتنا، ليس من قبيل الصدفة ان يلتقي الاتجاه الثاني مع فكرة "الارض الموعودة" و "دولة الخلافة"، فكلاهما يرفع شعار "جئناكم بالتفتيت"!
جئناكم بالتفتيت
[post-views]
نشر في: 13 أكتوبر, 2015: 09:01 م