على بعد خمس دقائق أقطعها من بيتي بالدراجة الهوائية يقام معرض لفنسنت فان غوخ في مدينة دراختن حيث أعيش وأرسم، وهو واحد من المعارض والنشاطات التي تتوزع في هولندا الآن حول هذا الفنان بمناسبة مرور 125 سنة على وفاته. يعتبر هذا المعرض خاصاً وفريداً حيث تُعرض فيه بعض أعمال الفنان التي نُفِذَت من جديد وعولِجَت بطرق خاصة كي تكون ثلاثية الأبعاد.
قام المشرفون على المعرض بصنع منطاد كبير بل هائل الحجم وجعلوه يحلّق في فضاء المدينة، منطاد على هيئة فنسنت فان غوخ نفسه، ظهر في السماء وكأنه منحوتة ملونة للفنان الرائع تطير في فضاء المدينة بسمائها الزرقاء، تحيط به بعض الغيوم البيضاء الصغيرة التي توشك أن تظلله وتحميه من أشعة الشمس. فنسنت الذي لم يفهمه أو يفهم أعماله وأفكاره أحد أثناء حياته، يشكل اليوم مصدراً مهماً من مصادر اقتصاد البلد حيث يزور متحفه في مدينة أمستردام مليون ونصف المليون زائر سنوياً.
فان غوخ ليس فقط رساماً كبيراً مرّ في تاريخ هولندا والعالم ومضى، بل هو ماركة مسجلة للبلد، انه بصمة ذهبية في تاريخ الرسم، هو قلادة وتاج الفن الذي تفخر به المتاحف في كل مكان، فنسنت الانسان الرائي والفنان المثقف الذي ضحى بكل شيء بما في ذلك حياته كي يعيش كفنان صادق وانسان نزيه حتى في أحلك وأصعب الظروف.
في مرحلته الهولندية ، رسم الكثير ومنها لوحته الشهيرة ( آكلوا البطاطس) وهي أعظم أعماله في هذه الفترة، كان فخوراً بها حيث تمثل عائلة (دي خروت) وهم يأكلون البطاطس بنفس الأيدي التي كانوا يستعملونها في تكسير الحجارة وحفر المناجم، كانت تُعينَهُ هذه المقارنة على اكتشاف نفسه المحبة للخير والأنسان وكان ميالاً الى هذه المواضيع التي تقربه من الناس أكثر، هو الذي كان منغمساً بقراءة كتب شكسبير وتشارلز ديكيز وفكتور هوغو. لقد رسم هذه اللوحة عشر مرات تقريباً، بحجوم وبتقنيات ومواد مختلفة، حتى أن بعض مؤرخي الفن يعتقدون بأن المرأة التي على اليمين في هذه اللوحة كانت حاملاً من فنسنت نفسه، لكن أحفاد هذه العائلة الذين شاهدت لقاء معهم في التلفزيون الهولندي وهم يتحدثون عن هذا العمل الخالد، يستبعدون علاقة الرسام بجدتهم.
لم يحب أو يؤمن فنسنت بغير الانسان، وحتى حين ذهب الى الكنيسة التي في مدينته لم يدخلها، لكنه بقي ينظر اليها من الخارج وقام برسمها، وكذلك طلب من بعض الأشخاص الذين يدخلونها للصلاة أن يتوقفوا ليرسمهم مقابل مبلغ بسيط من المال ما أثار غضب وانزعاج القس الذي أخذ يعطي لهؤلاء بعض السنتات ليبتعدوا عن طريق هذا الرسام غريب الأطوار.
ليس هناك فنان من فناني القرن التاسع عشر أثّر على الفن والفنانين كما أثَّر فنسنت فان غوخ، هو الذي سقى الانطباعية بماء روحه وقوّى عودها، جعلها طريقاً يمتد بعيداً في الأفق، ومن خلال موهبته الفذة فتح طريقاً جديداً أمامها، طريقاً لم يسلكه أحد من قبل، أدى الى ما بعد الانطباعية والوحشية ثم سار حثيثاً واثقاً نحو التعبيرية.
حين انتقل فنسنت من هولندا الى باريس لم يكن يعرف أو يقدِّر ما كان ينتظره هناك وما سيحدث له، هو الذي عبأ حقيبته بالملابس وبعض أدوات الرسم مع تقاليد مدرسة لاهاي وألوانها البنية القاتمة، لتشرق لوحاته تحت شمس باريس وضوء نوافذها البهيجة، هناك تفتحت زهور ابداعه التي كانت نائمة تحت غيمة شكوك الآخرين ولامبالاتهم. تحول من المشاهد القاتمة الى الحقول البنفسجية المشرقة بضوء الأفق الجنوبي. الآن وقد ذهب فنسنت بعيداً وقد توّج رحلته بالعذاب والفن، هاهو منطاده يحلق في سماء المدينة وهو ينظر لنا بشعره الأحمر وقبعته الزرقاء. أرفع رأسي لأتأمله وأشعر بأن روح الفنان تغطي سماء المدينة بكاملها.
يتبع
فان غوخ يطير في سماء المدينة
[post-views]
نشر في: 16 أكتوبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...