TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة: ليلة مضيئة

قصة قصيرة: ليلة مضيئة

نشر في: 17 أكتوبر, 2015: 09:01 م

كان الوقت في حدود ما قبل الظهر.. خرجت راكضة من بيتنا إلى بيت أخي الذي كان يبعد مجرد مئتي متر فقط.. في تلك الأثناء توجه نحوي مجموعة من الجنود الذين كانوا يهمهمون فيما بينهم. وقفت في منتصف الطريق، وجّه احدهم بندقيته نحوي ورشقني بوابل من الرصاص بدءاً من

كان الوقت في حدود ما قبل الظهر.. خرجت راكضة من بيتنا إلى بيت أخي الذي كان يبعد مجرد مئتي متر فقط.. في تلك الأثناء توجه نحوي مجموعة من الجنود الذين كانوا يهمهمون فيما بينهم. وقفت في منتصف الطريق، وجّه احدهم بندقيته نحوي ورشقني بوابل من الرصاص بدءاً من كتفي الأيمن وصولا للايسر،.وقعت على الارض. أحسست بحرارة تنتشر في جسدي، حينها هبّ اخي ووصل إلي. كنت لا أزال أحس بنبض قلبي لكنني كنت عاجزة عن الكلام. كنت أريد إخباره بأنني لازلت حية وانني استطيع التنفس. شهقت مرتين بقوة وأرفقت زفيري الثالث بدوي صرخة أيقظت بها أخواتي الخمس من النوم.
أمي الغارقة في النوم في الطابق العلوي سمعت صرختي فاقتحمت علينا الغرفة مذعورة.. كنت مرعوبة وغارقة في بولي. يومها كنت في التاسعة من عمري ولم تمر سوى اشهر على إصابة أخي برصاصة طائشة في قلبه. كنت لا اريد ان اموت. امسكت امي بيدي واخرجتني من السرير وانا ابكي. اخذتني الى الحمام ووضعت ابريقا من الماء على النار وخلطت ماءه بماء بارد واخذت تغسلني، ثم جففتني تماما بمنشفتها واصطحبتني الى سريرها. رفع ابي رأسه من تحت غطائه وسأل: ماذا حدث؟ قالت له أمي: لا شيء. كنت لا ازال اتنهد حتى ذلك الوقت... تلك الايام أسميتها طفولة ، تلك الطفولة التي بدأت مع اولى ذكريات الحرب، كنت لا ازال في الرابعة من عمري ، كان العام الف وتسعمئة وثمانين حين بدأت الحرب العراقية الايرانية، وكان بيتنا قريبا من اكبر ثكنة عسكرية في المدينة. على طريق العودة من المستشفى للبيت كنت ممسكة بيد كبرى اخواتي حين اوصلني هدير الطائرة وقصفها على غفلة الى حالة اقرب الى الصمم، وبلحظة واحدة تحولت المدينة الى قطعة من الضياء . ارعبتني اصوات الانفجارات المصحوبة بلهيب احمر ثم تلاه دخان اسود، اثناء ذلك القصف الكثيف وبينما كنا نركض نحو البيت رأيت الاطفال يركضون مذعورين بدون حقائب كتبهم، ثم رد عليها هدير المضادات الجوية.
استعرت الحرب ولم تعد تقتصر على القصف النهاري، بل ضجت طفولتي بالمعارك الليلية أيضا..انفجارات القذائف تتنقل من حارة الى حارة. اصوات الشباب الذي يحملون ارواحهم على أكفهم كانت تتتابع: "اركضوا من هنا ..جاءوا.. هلموا.. اركض اركض اركض". اختلط هدير السيارات بازيز الرصاص، تماما كيوم القيامة. ليل الحارة كان يتحول الى نهار مضيء. في تلك الاثناء كنت اختبئ مع اخواتي خلف جدران الغرف، ولكننا كنا نعلم بكل ما يدور في الحارة من خلال فتحات الستائر. سمعت امي تقول: ها قد نزلوا الليلة، سوف يجبرونهم على القبوع في اوكارهم، .وانا من شدة خوفي كنت اقبع في احدى زوايا الغرفة فقد كنت اعلم عمن يتحدثون ولماذا يفعلون ذلك.
كانت الحرب في كل مكان وتأتي من كل حدب وصوب. كنت قد دخلت المدرسة ، وكنت احمل في قلبي كلاما بحجم الدنيا، كل ما كان يقال عن السياسة في بيتنا ليلا كنت اسرده حتى قبل قولة صباح الخير على مسامع المعلمين والزملاء وحتى الفراش والحارس وصولا الى مدير المدرسة. وصل من المدرسة خبر الى اهلي بأن ابنتهم تشبه محطة اذاعة مونت كارلو، ومن دون ان تفوت فاصلة ولا حتى نقطة تعيد سرد كل ما تحكون في البيت. في تلك الاثناء وبينما كان خالي الذي يعمل في احدى دوائر الدولة يسوق احدى سيارات الدائرة اعترضت طريقه مجموعة مسلحين يلبس افرادها الملابس الكردية طالبين ايصالهم الى مكان ما، وقام خالي ببراءة ودون ان يعلم عن هويتهم بايصالهم الى مقصدهم، فتصل اخبارية الى الدولة ويلقى القبض عليه ويودع السجن لمدة اربعين يوما كاملة.. وبهذا يتحول خالي الى بطل حكاياتي، فكنت اقدم كل صباح تقريرا بآخر اخباره.
اتذكر ذلك الصباح جيدا عندما كنت اهم بالذهاب الى المدرسة اطبقت امي باصابعها على شفتي بقوة وقالت : لو تفوهتِ بكلمة واحدة في المدرسة فسوف اقطع شفتيك هاتين.. من تلك اللحظة احتقرت الكلام.
استمرت الحرب واوشكت على تدمير كل شيء حتى وصلت الى البيوت. لم يعد احد يطيق احدا . كان الدخان الابيض يتصاعد من انفجار القذائف المدفعية التي تصيب المدينة، وكان الناس يتراكضون... الى اين؟ الى لا مكان، فاينما اصيب المرء لايفرق المكان في شيء. كنا جميعا نسكن بيوتا من طابق واحد ولم تكن البنايات ذات الطابقين او الثلاثة طوابق قد بنيت بعد، وكان الخبر يتداول بسرعة، تلك القذيفة التي سقطت قبل قليل في المدينة فرمت ١٢ شخصا. اتفق ابي مع الجيران على اخلاء العوائل اثناء النهار لابعادهم عن خطر القصف المدفعي.. دسسنا انفسنا جميعا في سيارة الباص العائدة لجارنا العم اكرم. اخذونا الى خارج المدينة وانزلونا في سهل بعيد، كانت اصوات ضحكاتنا مع الاطفال تجلجل وكنا نسمع صدى القصف حين قالت امي فجأة : يا الهي تلك القذيفة وقعت بالقرب من بيت خالتك، رحمتك يا رب اتذرع اليك ان تحميهم.
يخرب بيت الحرب . منذ سنين طويلة وهي تعيد عرض نفسها بمئة لون ولون . بمجرد وصولنا لادراك ذواتنا تركنا المدينة للحرب، وتوجه كل منا الى بلد مختلف حيث بدأنا نمارس الحياة من اول بداياتها.
منتصف ذات ليلة من الشتاء الماضي بينما كنت غارقة في النوم أفقت على صرخة ابني ذي الخمسة اعوام وكان يتصبب عرقا. كان الثلج المتراكم في الخارج يضيء الغرفة تماما، قال ابني باكيا: ماما كان كابوسا مخيفا، خرج جميع الجنود من اللعبة وهاجموني على الفور وقام احدهم بتقطيع اوصالي بسيفه الماسي، وكنت على وشك ان اتحول الى بخار، فناديت ابي لكنه لم يكن موجودا. احتضنته بقوة وقلت له : انا هنا ، اطمئن بأني سأبقى قريبة دائما، كان ذلك مجرد كابوس وسوف يمر، فالحروب لا توجد هنا سوى في الالعاب والافلام الورقية... اطمئن يا بني، فغدا سوف يكون يوما عاديا مثل بقية الايام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المالية النيابية: كلفة استخراج النفط من كردستان تصل 22 دولاراً

في رد رسمي.. محافظ بغداد يرفض قرار الإحالة إلى التقاعد

الدرجات الخاصة المصوت عليهم في البرلمان اليوم

نص قانون التعديل الأول للموازنة الذي أقره مجلس النواب

بالصور| أسواق الشورجة تستعد لإحياء "ليلة زكريا"

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram