يبدو ان مفهوم كلمة السعادة يتغير حسب احتياجات الفرد . وهذه الاحتياجات تتغير بتغير المستوى الحضاري. لكن ضمن المستوى الواحد، وافراد الشعب الواحد، أو سكنه الارض الواحدة، لا نجد حدودا لمعنى هذه الكلمة. فهي كثيرا ما تختلط فيها البهجة، والراحة والخلاص أو ا
يبدو ان مفهوم كلمة السعادة يتغير حسب احتياجات الفرد . وهذه الاحتياجات تتغير بتغير المستوى الحضاري. لكن ضمن المستوى الواحد، وافراد الشعب الواحد، أو سكنه الارض الواحدة، لا نجد حدودا لمعنى هذه الكلمة. فهي كثيرا ما تختلط فيها البهجة، والراحة والخلاص أو النَيْلْ من.
في الادب والاشعار يظل المعنى ضمن النفس الشاعرة أو صائغة الكلام للتعبير عنها. وهي عموما "سعادات شخصية"، روحية أو جسدية.
في الادبيات الحزبية العراقية، نجد حزبا عراقيا عريقا يضع كلمة السعادة رابع كلمة في شعاره الموجز: "وطن حر وشعب سعيد". فهي المقابل التكميلي للحرية "وطن حر". معنى هذا ان السعادة ذات صلة تكميلية بالحرية. وكما هو واضح اخرجت الكلمة من النطاق الفردي إلى العام، هنا إلى الشعب، وبقيت تشير إلى السكن والطعام والرفاه الاجتماعي، المادي على الاكثر وان لم تقطع بهذا. عموما هي تشير إلى الارتياح بسد احتياجات العيش.
في شعار حزب البعث العربي الاشتراكي ثلاثية عامة. لا اشارة واضحة وحاسمة للسعادة. ربما للتفكير بانها، السعادة، ناتج طبيعي للوحدة والحرية والاشتراكية. تحقيق هذه يؤدي إلى السعادة. ما اعرفه ان منظري أو مثقفي حزب البعث الاوائل، في الخمسينات فكروا بتغيير الشعار ولم يتسنَّ لهم ذلك. ولا ادري ان كان سيكون اقل عمومية.
الحزب الوطني الديموقراطي ظل شعاره عاما عائما. فهو حزب سياسي يسعى لدولة وطنية، وليس قومية، تتمتع بالديمقراطية وبنظام دستوري وهي وطنية غير مستعمرة. تلك سمات دولة لبرالية، حديثة تضمن، كما هو واضح، مصالح البورجوازية الوطنية ومن هذه وبفضلها رفاه الشعب أو سعادته. فالسعادة ضمن هذه العمومية تعني انها ستتيسر بعد توافر شروطها، أو بعد توافر شروط العصر الاساسية للدولة الوطنية الديموقراطية.. ويبدو لي، وقد يكون استنتاجي قاصرا، ان حزب البورجوازية الوطنية لا تنقص ناسه الاحتياجات المادية، كالخبز والصحة والسكن. متطلبات العيش متيسره فلم يبق الا السعادة الفردية وهي شان خاص. ولكل فرد حاجته إلى نوع ما من السعادات الفردية. وهذه قد يوفرها عمل مريح ناجح، أو صحة جيدة، أو انتاج جيد اومبيع أو امكانات سفر وحضور ووجاهة. لسان حالهم يقول: نحن هنا لتاسيس دولة ديموقراطية بعيدة عن الاستعمار من جهة وبعيدة عن صراع الطبقات من جهة اخرى.
لا اريد التوقف عند مفهوم السعادة في الاحزاب الاسلامية، فهو وان كان الاسلام واحدا فان مديات مفهوم السعادة مختلفة وتتفاوت بين اجتهاد واخر. عموما راحة "عباد" الله واجبة، والسعادة الكبرى في الاخرة، والدنيا عموما دار فناء. يكسر هذه العمومية تاكيدٌ هنا وهناك على راحة النفس واسعادها، والعمل على راحة الامة ونعمائها ولهذا المسعى المبارَكةُ في الدنيا والهناء الابدي من جنان الله من بعد...
انا لم اجد بين المفكرين العراقيين من اهتم اهتماما خاصا بمفهوم السعادة أو شغله البحث في مضمونها فهم اما مفكرون سياسيون، قانونيون، اقتصاديون، لغويون أو ادبيون. اساتذة الفلسفة شغلتهم موضوعات الجدل الفكري والمذاهب الفلسفية الاسلامية أو الفلسفة الغربية. وهكذا نستنتج ان الشاغل هو "العام" في الادب وفي الاجتماع وفي السياسة. المسائل الفردية الدقيقة والفرعية، كمفهوم السعادة وفردانيتها الفكرية، مسائل تهتم بها عادة الروح الحضارية بعد الانتهاء من مسائل الخبز وملحقاته. لذا لم نجد للسعادة معنى فرديا خاصا ولا معنى اجتماعيا متجاوزا ظروف العيش والعمل. وحين نستعرض الاعمال الادبية المهمة، نجد السعادة بمعناها العام. الاشارات للمعنى الخاص نادرة وبحدود الحاجة الفردية الضيقة لن نجدها كهمٍّ وجودي. غالبا ما نقرؤه في الروايات والقصائد، في بلد لا يتمتع بحرية العلاقات بين الجنسين ويعاني من الحرمان والكبت أو العوز الجنسي، هو سعادة الوصول إو اللقاء أو النيل. فنحن نجد واضحا التضوّر أو التشوق للمراة- أو للرجل من قبل المراة- والسعي والكدح للحصول على عمل أو كسب أو السعادة بمعناها البسيط المقابل وتشمل حالات السرور، مثل الشعور الجيد بعد حمام ساخن أو بعد الاستقرار في الطائرة أو بعد الوصول أو متعة الشعور بالحب أو اشباع الفضول أو ان الشرطي لم ينتبه اليك أو اطلاق السراح بكفالة أو احترام المدير أو التمتع بسماع موسيقى... سعادات أو مسرات مثل هذه، هي التي تشيع في الكتابات الادبية وهي نفسها في الحياة اليومية. اضف لها الانتشاءات التي لا تطالب بثمن، مثل الفرح بمشهد طبيعي أو بوجه جميل أو الرقص على سطح سفينة في سفرة سياحية أو التمتع بتدلي العناقيد، عناقيد الزهر أو العنب، قريبا من النافذة. يمكن ان نتذكر المزيد من هذه "السعادات" الصغيرة الشعرية، ونبقى بعيدين عن مفهوم السعادة بمداه وعمقه الفكريين.
قد يكون العذر بانهم شعراء أو كتاب وليسوا فلاسفة. لكن هل كونهم شعراء أو كتابا يمنع من فهم السعادة والحديث عنها بافق اوسع؟ اما كان ممكنا تطوير تلك السعادات الشخصية التي نريد ان نحققها أو التي تاتينا بشكل طبيعي؟ اعتقد بان ما يجب تطويره هو ارواحنا وافكارنا لتمتلك التقدير العميق للجمال أو للحياة. وهذا لا يتم من غير معرفة. والمعرفة أيضاً تعطي سعادة. نحن نحس بسرور حينما نعرف أو نرى أو يدلنا احد على حل أو يقدم تفسيرا جيدا أو حين نستنتج او نتوصل الى حل! الناس مذ بدأوا يميزون عقليا، كان اهتمامهم بمعرفة الجيد والسيئ، الحقيقي والزائف، ليتبينوا مواقع الراحة أو السعادة بالنيل أو بالنجاة.
فهل هو سذاجة وبعد عن الواقعي ام هو ذكاء مبكر، بزوغ الرغبة في الخلود وارتباط الاطمئنان له بالسعادة الشخصية؟ لم يكن الاهتمام أو التركيز هنا على المظاهر البسيطة والاحتياجات ضامنة الرفاه مثل جمال الزوجة أو الثراء أو الممتلكات المادية. جلجامش لا يذكر لنا اهتمامات مثل هذه، بل هجرٌ لكل هذه من اجل تحقيق الخلود. اذن معنى السعادة كامن، بالنسبة له، في الخلاص من الموت والبقاء حيا في الكون.هو تفكير متقدم في رايي، تفكير بكر، صاف سيظل البشر في الأزمنة يتطلعون لتحقيق سعادتهم بنيله. لكننا اليوم، وفي ظروف شعوب العالم مختلفة المستويات اقتصاديا وثقافيا، وفي معمعمان النضال والكفاح من اجل الخبز أو الافضل، يواجهنا هذا السؤال: هل الخلود وحده هو المؤمل لتحقيق سعادة نحلم بها؟ وهل للخلود معنى أو هل نرغب فيه في حياة كثيرة العيوب مثل حياتنا؟ ام اننا يمكن ان نجد للخلود معنى فقط في حياة تستحق ان نحياها، لا الحياة التي نجهد ونضحي لتغييرها؟ ام يظل المطلب جوهريا، هو ديمومة الحياة، وهنا يصبح السؤال قضية فلسفية مثل قضايا فلسفية اخرى؟
ربما نجد فرصة مريحة في العودة إلى الفكر اليوناني: ان الحياة الفاضلة تكون ممتعة والفضيلة جزاؤها. وبهذا ننقل الأمنية من المادي إلى الاخلاقي. ربما نسمو بها. وربما هو ما نحتاج له في الحياة "ان الافعال المتمشية مع الفضيلة ممتعة بطبيعتها فهي تسر الذين يحبون الرقة. اولاء لا يحتاجون لإضافة السرور.."السرور في داخله الفضيلة والفضيلة في الحياة!"
والان أسأل: هل القول الإغريقي ان الانسان يصبح اكثر سعادة حينما يكون متمسكا بالفضيله.. هل هذا حل اخير يمكن اللجوء اليه، ام هو مهرب من قضية لم نجد لها حلا؟
في كل حال، الكتابة الادبية تعمل على توفير متعة ما، سعادات صغيرة من خلال الانتصار أو التعاطف أو كشف المخفي أو ادانة اسباب المعاناة ومحوها. وهنا لا اجدني مخطئا ان قلت ان القصائد والقصص والحكايات، انما هي احضار عوالم تنتهي بامتاع من نوع ما، بسعادات صغيرة. ومن هذه مجتمعة يؤدي الادب إلى الاقتراب من، أو إلى التماس مع، ما يمنح الانسان عزاء أو فرحا أو املا بالسعادة أو، في الأخير، مذاقَ سعادةٍ قصير الأمد يشوّق إلى الاستزادة منه.