كانت تتراءى له في حدقات عينيه بين الفينة والأخرى وهو مستلقٍ على سرير أحلام اليقظة أطياف معطفه الذي نسجه بمخالب عمله ... تتقافز على نيران حرقته اقزام الشياطين التي هدّمت آماله وطمست رغبته في التحدي في وحل الاستسلام .. لم يشأ أن يجلس وحيداً بل تعوّد عل
كانت تتراءى له في حدقات عينيه بين الفينة والأخرى وهو مستلقٍ على سرير أحلام اليقظة أطياف معطفه الذي نسجه بمخالب عمله ... تتقافز على نيران حرقته اقزام الشياطين التي هدّمت آماله وطمست رغبته في التحدي في وحل الاستسلام .. لم يشأ أن يجلس وحيداً بل تعوّد على أن لا يكون لوحده لكونه في صخب بحر العمل تعوّد ان يكون... راح يلهث خلف سراب الأمل وسط أكداس الحصى وهو متكئ على بقايا شيبه يريد تحقيق غاية مبتغاه (حلم شراء معطف آخر) ... أخذ يبذر بذرة قوته في أرض عمله للحصول على عمل يستطيع من خلاله تحقيق حلمه من جديد ...
لم يجد ما يريد بل ظل كالسابق يعمل هنا وهناك عند هذا وذاك يأخذ من هنا ويعطي للآخر ... علامات التعب استبانت على سطح وجهه ؛ وتعاريج طرق تجاعيده بدت وكأنها انهار حبست مياهها وتشققت أرضها ، وهو ما زال مصراً على نيل شهادة إصراره ... كان يعمل تحت مظلّة الجو القارس حيث الثلج الأبيض واسع المدى واجساد الناس قد اختبأت تحت معاطفها التي وقتْها من ضراوة سوط برد الثلج وهو ينظر اليهم بلهفة طفلٍ الى أحضان أمه ... آمال تعلّقت بطيات فكره وكتبت بحروف شعرية ألقيت في مهرجان صبره وهو مصرُ على نيل شهادة صبره ... تأخذه أقدامه كل يوم بعد عناء العمل وبزوغ نجوم الظلام الى قهوة تسكن وسط المدينة وتطل على مشارف الطرقات بجهاتها الأربع ليلقي نصيب تعبه على أريكة تعوّد أن يجلس عليها كل يوم ؛ ويبدأ عند جلوسه بحساب ما أمّنه له رزقه ، وفي نهاية فصل الحساب يبتسم ضاحكاً تارة ويغلق مسرعاً مسرح ضحكاته تارة أخرى ... شَعَرَ مرتادو المقهى بان ثمّة شيء يقبع في فكر الرجل الخيالي لا يعلمون ما هو ولكن هذا ما يفسره انطواؤه الخاص ودندنته مع نفسه وهو موطئ رأسه الى الأسفل عندما يأتي الى المقهى ... ينظر الشيخ العجوز الذي علا الشيب رأسه بعد ان تحرك دفء المقهى في أوصاله الى معاطف الجالسين في المقهى والذين هم في الخارج وهو من دونهم عاري المعطف ويتمنى موعد اكتمال ماله ليشتري معطفاً آخر ... دفع الفضول أحد زبائن المقهى الى دخول عالم الرجل الخيالي فراح ينثر كلمات تحمل بين طياتها شجن التملّق رغبة للتحدث معه ومعرفة ما يخبئه ... ظل يثرثر معه حتى ملّه الشيخ واخذ يحدّق في عين مجنون عكّر له صفوة فكره ... تململ منه كثيراً وازداد حرقة فقال له الشيخ : أتريد أن تكون مثلي .
الفضولي : ولم لا
أجابه الشيخ بصوت خافت سكن في روحه ... اذن انت مجنون
الفضولي .. قلت شيئاً ؟..
الشيخ : لا لا ، لا شيء ولكن سياط الدفء تؤلمك
نهض الشيخ وترك ما تركه الى سلّة الاهمال لا شيء يعنيه سوى شراء معطف جديد ... بدأت مراسم أيامه تسير بحسب منهاج احتفالات عمله فهو يسبق فجر النهار ويتخلف على شمس الأصيل ليتوجه كعادته صوب المقهى لحساب ما يحسبه ... بوادر اكتمال بنائه المالي أوشكت على الانجاز حتى هيّأ لنفسه ابتسامة غابت عن مسرح وجهه ... تقرب الفضولي كعادته من الشيخ ليتحسس عن كثب مباهج فرحه وسعادته التي اعلنت نفسها أمام جمهور المقهى ، استدرجه باسئلته الثعلبية الى فخ البوح إلاّ ان الشيخ أفلت من كماشته بدهاء افلاطوني وذلك بامتصاص ثرثرته كلّها ... لم يشأ الفضولي أن يوقف رشاش اسئلته التي انهال بها على الرجل بل حاول جاهداً اصابته لكي يعرف حقيقته ..
الفضولي : أليس الجو بارداً؟
الشيخ : نعم انك ترتدي معطفاً
الفضولي : وانت
الشيخ : انا أشعر بالدفء
لم يكترث الشيخ بما قاله الفضولي على الرغم من ان كلامه شقّ فؤاده وارداه قتيلاً لأنه في نشوة اكتمال المبلغ الذي يكفي لشراء معطف يقيه البرد القارس خارج اسوار المقهى ... امتطى الشيخ قدميه وتوجه بهما صوب المحال التي تقبع خلف حاجياته معاطف الدفء .. دخل احد المحال ، قلّب هذا وارتدى ذاك وضع الآخر على صدره ومسك الآخر ... متّع نظره بالمعاطف كالسابق ولكن بتجنيد جنود نظره لحماية نفسه من لصوص البارحة ... خرج من المحل وفي كيسه المظلل يترنح معطفه الجديد كما هو الطفل في مهده ، ولكن قدره المشؤوم كان يتربص به خلف حظه ... امتطى المسكين حظه متجهاً نحو مطعم للوجبات السريعة وجلس بقربه أحدهم وبين حدقات عينيه شيء يوحي بالخطر ... ظل يقرأ في وجه الشخص عبارات ترن في نفسه وهو ممسك بمعطفه بقوة لا يعلم ما تخبئه له الساعات ... عيناه باتتا كرادار يكشف ما حوله من هجمات محتملة كي لا تتكرر مأساة الأمس ، واذا بالشخص يسرق المعطف ويركض مسرعاً هارباً من قبضة الشيخ الذي سقط من الأريكة التي كان نائماً عليها وهو غارق في بحر القيلولة لينهض فجأة من قيلولة سرقت من وقته ألماً على معطفه .. ليصبح الحلم السريع (القيلولة) ألماً ثانياً بعد ألم معطفه في الحقيقة ... نفض الشيخ غبار التعب الذي التصق بوجهه وردد قائلا : تعساً أيها المعطف .. تعساً أيها المعطف .