الغشّ التجاري فساد، والفساد جريمة منكرة، وهذه الجريمة بالذات تركت دولتنا ومجتمعنا "جلد وعظم" بعدما أكل الفاسدون اللحم وفتّتوا المفاصل.. من أجل هذا ينزل عشرات الآلاف من العراقيين الى ساحات التحرير كل أسبوع منذ ثلاثة أشهر، والهدف الأول لشعاراتهم ولافتاتهم وصيحاتهم هو الفساد الذي جعل بلاد ألف ليلة وليلة بلاد الألف شكل وشكل للفساد، أحدها الغش التجاري.
أسواقنا متخمة بالسلع المغشوشة والرديئة التي في غضون أشهر وأسابيع، وأحياناً أيام فقط، تتحول إلى نفايات ترفع من منسوب ركام الأزبال الذي يثقل على شوارع مدننا وساحاتها ودرابينها. أكثر هذه السلع مستورد من مشارق الأرض ومغاربها، وأقلها الانتاج المحلي المتدهور باطراد كما كل شيء في هذي البلاد. هذه التخمة بالسلع المغشوشة صنعها التجار الغشّاشون الذين يذهبون إلى الدول المصنعة ويتفقون مع شركات غير رصينة على صناعة سلع بنوعيات رديئة، فيغرقون السوق المحلية بها.. المستهلكون يقبلون عليها لرخصها ولظنّهم أنها سلع رصينة، فيقعون في كمين الفساد المحكم.. لكن هذا الفساد ليس من انتاج التجار الغشّاشين وحدهم، إنما تساعد في ذلك سلسلة طويلة من موظفي الدولة تبدأ من مرافئ الاستيراد والمنافذ الحدودية التي تجتازها هذه السلع الرديئة، ولا تنتهي بجهاز السيطرة النوعية الغائب دائماً وأبداً، أو جهاز حماية المستهلك (هل له وجود؟).
قاضي المحكمة المتخصّصة بالجرائم الاقتصادية في بغداد الأستاذ إياد محسن ضمد، قرع منذ يومين جرس إنذار جديد، إن لم يكن الأخير فستكون العاقبة أن عشرات مليارات الدولارات سنظل نحرقها سنوياً بجحيم الغش التجاري فيما نحن نركض وراء الصناديق الدولية لإقراضنا بعضاً من هذا المبلغ ونقتطع من رواتب بعض الفئات الاجتماعية المجدّة لتوفير بقية المبلغ.
القاضي ضمد يحذر في بيان: ما لم يُراجع قانون حماية المستهلك، فليس في الإمكان وقف زحف السلع المغشوشة والرديئة. هذا القانون لا يتعامل مع الغش التجاري بوصفه فساداً وجريمة خطيرة في حق الدولة والمجتمع كما سرقة المال العام، وإنما بوصفه "مخالفة" (كما مخالفات نظام المرور!). القاضي يقول إن "عدم مطابقة البضائع للمواصفات يُعدُّ مخالفة يُعاقب عليها بالحبس مدة لا تزيد عن 3 أشهر أو بالغرامة بموجب قانون حماية المستهلك رقم 1 لسنة 2010"، ويلفت الى أن محكمته " مضطرة لإخلاء سبيل متهمي التلاعب بالاقتصاد الوطني مهما كانت خطورتهم بكفالة، لأن القانون لا يسمح بتوقيفهم"، عازياً ذلك إلى الأحكام "البسيطة التي تصدر بحق من ينتهك قانون حماية المستهلك"، الذي يدعو الى "تعديله بنحو يتفق مع طبيعة هذا النوع من الجرائم وتطور أساليبها بما ينسجم مع خطورة نتائجها".
مكافحة الفساد لن تكون ما لم يُوقف في الحال هذا الهدر المهول لعملتنا الصعبة، بوقف استيراد السلع المغشوشة والرديئة، وبوضع حدّ للعبة التجار الغشاشين الذين جعلوا من بلادنا مكبّاً لنفايات العالم.
عن غشّ التجارة وغشاشيها
[post-views]
نشر في: 26 أكتوبر, 2015: 09:01 م