TOP

جريدة المدى > عام > فصول من كتاب هكذا مرت الايام

فصول من كتاب هكذا مرت الايام

نشر في: 29 أكتوبر, 2015: 12:01 ص

ادب المذكرات لون روائي جميل ومشوق، يقدم من خلاله الكاتب الحقائق بأمانة وصدق . وقد عرف الأدب العربي كتّابا كثيرين للسيرة، حفظوا من خلالها تاريخ أشهر رجال السياسة والفكر والعلم والأدب .. من بين المذكرات الكثيرة التي حرصت (دار المدى) على اصدارها مذكرات

ادب المذكرات لون روائي جميل ومشوق، يقدم من خلاله الكاتب الحقائق بأمانة وصدق . وقد عرف الأدب العربي كتّابا كثيرين للسيرة، حفظوا من خلالها تاريخ أشهر رجال السياسة والفكر والعلم والأدب .. من بين المذكرات الكثيرة التي حرصت (دار المدى) على اصدارها مذكرات الاديبة والكاتبة بلقيس شرارة التي اطلقت عليها عنوان " هكذامرت الايام " ، تروي فيها نشأتها الاولى في مدينة النجف الاشرف حيث ولدت لعائلة تهتم بالادب والثقافة ، فكان والدها محمد شرارة ابرز الوجوه الثقافية والفكرية في العراق في الثلاثينات والاربعينات من القرن المضي .. هذه المذكرات ليست التجربة الاولى في ادب السيرة للكاتبة بلقيس شرارة فسبق ان اصدرت بالمشاركة مع زوجها الفنان المعماري الكبير رفعت الجادرجي كتاب "جدار بين ظلمتين" وكتابها المهم "المطبخ ودوره في حضارة الانسان" كما صدرت لها مقدمة لرواية "إذا الأيام أغسقت" لحياة شرارة.
في صفحات هذه المذكرات نقرا عن ابرز الاحداث التي مرت على العراق خلال العقود الثمانية الماضية وايضا نقرا وصفا للحالة الثقافية التي عاشها العراق خلال العقود الماضية . وقد اخترنا فصلين من الكتاب ، الاول يتحدث عن الزيارة الاولى التي قامت بها بلقيس شرارة لبيت السياسي العراقي الراحل كامل الجادرجي .. والثاني عن وقائع موت شقيقتها الكاتبة والمترجمة المعروفة حياة شرارة.

 

زيارة دار كامل الجادرجي
فاجأني ذات يوم رفعة وطلب مني أن أزور والده كامل الجادرجي . ترددت بادئ الأمر، إذ كنت أنتظر أن تنتهي مدة سجن والدي، قبل أن أقدم على مثل هذه الخطوة. ولكنه أصر على الزيارة، وطمأنني ان إعلان الخطبة الرسمي لن يتم قبل الإفراج عن والدي!
التقيت برفعة، وذهبنا سوية لدار والده. كان والده متحفظاً، حذراً، متهيباً في البداية، يخشى الفتيات النشطات في السياسة لتجربته المريرة مع بعض الفتيات والنساء المنتميات لمنظمة الرابطة النسائية، والحزب الشيوعي، ولسلوك بعضهن البعيد عن اللياقة أحياناً. كانت معلوماته عني قليلة، مبعثرة، مبالغا فيها عن نشاطي السياسي. وكان يعلم أنني فصلت من الكلية وخسرتُ عاماً دراسياً.
دخلتُ من المدخل الخاص بضيوف أبو رفعة وليس من الباب الرئيسي. وجدته واقفاً قرب النار، إذ كان اللقاء في منتصف شهر تشرين الثاني عام1953! صافحته، وطلب مني أن أجلس على الكرسي الذي أمامه، وجلس رفعة بجانبي. كنت مستمعة معظم الوقت، لا أجيب إلا إجابات مقتضبة. كان السؤال الأول الذي وجهه لي عن والدي وعن وضعه في السجن. أخبرته أن مدة السجن ستنتهي بعد بضعة أسابيع.
ثم جاءت أمينة شقيقة رفعة، بعد أن سلمتْ عليّ، توجهت نحو المدفأة، وظلت واقفة وظهرها مواجه للنار، تتحرك بين حين وآخر لتغير الموقع، تبتعد تارة عنها وتقترب تارة أخرى منها، واقفة طيلة المدة حتى قُدم الشاي.
دخلتْ أم رفعة، وجلست بجانب ابنتها أمينة بعد أن سلمت عليّ، ظلت صامتة، ولم تنبس بكلمة، بل استمرت تتطلع بي، تتفحصني بدقة، لا ترفع عينيها عني! فأم رفعة امرأة محافظة في تفكيرها، نشأت في بيت يتمسك بالتقاليد الصارمة حول المرأة، كانت راغبة بزواج ابنها من إحدى قريباتها، من فتاة تعرف عائلتها معرفة جيدة، وهذا موقف طبيعي ينسجم مع مفاهيمها، في تفضيل إحدى فتيات العائلة، يتيح لها إقامة حفلة قران لابنها يكون مفخرة لها.
لا أدري ما هي الخواطر والأفكار التي دارت في رأسها، فقد تطوعت بعض النسوة في نشر شائعات غريبة لا يجمعها جامع عني. لكنها باءت بالفشل في إثارة الشكوك التي يمكن ان تحول دون إقدام رفعة على الزواج من فتاة غريبة عن العائلة!
علمتُ فيما بعد من رفعة من أن والدته كانت خائفة، متوجسة من تلك الفتاة الغريبة عن بيتها؟ متشككة من تسببها في زوال الصفاء السائد بين أفراد أسرتها! واضعة نصب عينيها ما ستثيره الفتاة الغريبة عن العائلة من مشاكل باقترانها من ولدها البكر بعد أن فشلت محاولاتها المتتالية لإثارة اهتمامه بصورة جدية والتقدم لخطبة إحدى فتيات العائلة. مع استمرارها في كيل المديح المباشر وغير المباشر لهن أمامه، لم يصغِ رفعة إلى المديح، بل كان جوابه دائماً قاطعاً لا مجال للشك والتراجع عنه: ماما أنا أختار الفتاة التي سأقترن بها، وسأرافقها إلى دارنا لتتعرفي عليها! ظلت تلك الفكرة تقض مضجعها وتجعلها في حالة من القلق والخوف مما يضمره المستقبل المجهول لها بزواج ابنها من الفتاة الغريبة عنها! لم تستطيع أن تفهم لمَ أقدم رفعة على مثل هذه الخطوة، فهي في حيرة من أمرها! فالعائلة هي أهم ما في حياتها، هي كيانها التي تتمثل بها منزلتها التي تكرس لها في المجتمع! وكان صعبا عليها خروج ابنها عن المفاهيم السائدة في محيطها والتي نشأت عليها منذ نعومة أظفارها!
أدخل رفعة فتاة غريبة في محيطها! تؤمن بالمفاهيم اليسارية، حكم على والدها بالسجن بسبب آرائه التي لا تكترث لها، ولا تفقهها أو تعيرها أية أهمية. فتاة يعود أصلها إلى بلد آخر غير العراق، وطائفة دينية تختلف عن طائفتها! فتاة ليست بالثرية أو من الطبقة الحاكمة! صفات تجمعت في فتاة تناقض ما تؤمن أو ترغب فيه لابنها البكر.
أما أبو رفعة فلم تكن تهمه مثل هذه الاعتبارات أو المعيار الأساسي من وجهة نظر أم رفعة، في اختيار الفتاة المناسبة لولده. كان يقلقه شيء واحد فقط، استمراري في الانخراط بالنشاط السياسي الذي قد يخلق له مشاكل هو في غنى عنها. وقد تبدد قلقه هذا بعد ان أخبره رفعة بقراري اعتزال العمل السياسي نتيجة تداولنا معاً بعد أن بحثنا الموضوع سوية وبالتفصيل، قبل أن ألتقي بعائلته.
قُدم الشاي لنا بأكواب من البورسلين المذهب مع الكليجة . طلب البعض إضافة الحليب للشاي، وهي عادة لم تكن شائعة في المجتمع العراقي آنذاك، إلا بين النخبة من الناس الذين اعتادوا السفر لقضاء الصيف في أوروبا، أو الطلبة الذين درسوا في جامعات بريطانية والولايات المتحدة. ودعتهم بعد أن قضيت ساعة معهم. خرجت من بوابة الدار الرئيسة برفقة رفعة، وهو اعتراف ضمني وغير مباشر بقبولي، فقد أصبحتُ عضواً في العائلة.
* * *
توالت أسئلة والدتي عند عودتي إلى الدار. أخبرتها عن التواضع ودماثة الخلق الملازمين لأبي رفعة، الذي شجعني على المشاركة في الحديث رغم الخجل الذي سيطر عليّ. فقد كنت متوجسة من الحديث في زيارتي الأولى. حدثتها عن صمت أم رفعة ونظراتها الفاحصة لي من رأسي إلى أخمص قدمي! ولم تتوقف أسئلة والدتي عند هذا الحد، فأجوبتي لم تشبع فضولها، فانتقلت إلى موضوع آخر، حيث بادرتني بالاستفسار عن دارهم. وصفتُ لها الحديقة الواسعة بأشجارها الباسقة وسعة غرفة أبو رفعة الضخمة، التي هي بسعة مساحة الدار الذي كنا نقطنه في حي الأعظمية! التي كانت أصغر دار عشنا بها، بعد أن صدر الحكم بالسجن على والدي لمدة عام.
كان الشارع الذي كنا نقطنه من بين الشوارع الجميلة في حي الأعظمية. حيث يبدأ ببيوت كبيرة منفصلة عن بعضها بحدائق جميلة واسعة تطل عليها، لينتهي ببيوت متواضعة، ملتصقة الجدران حيثُ تقع دارنا. لا يلاعب النسيم إلا جدران الإسمنت والطابوق، واختفت فيها الأشجار التي تزينه، وكأن الشارع يتكون من جسدين منفصلين لا علاقة لأحدهما بالآخر!
كانت غرف دارنا في حي الأعظمية، صغيرة لدرجة لم تكن تتسع غرفة الضيوف إلى طقم الكنبات، فاحتوت نصفه، ووزع النصف الآخر على الغرف الأخرى، فضاقت المساحات فيها ولم يعد باستطاعتنا التنقل في غرف النوم إلا بحذر، ننتبه دائما لكي لا نصطدم بالأثاث ونعّرض أجسادنا للأذى. فالدار صندوق من طابقين، بجدران من الطابوق وأرض من الطابوق الأصفر الفرشي، خلا من ألوان الطبيعة الزاهية وطغى اللون الرملي على مساحاته، وغابت خضرة الأشجار التي كان بعضنا يستظل بظلها والبعض يجعل منها لعبة مهمة يتنافس بتسلقها . كانت ساحة الدار الداخلية صغيرة لدرجة ضاقت بها حتى رقعة السماء، وقلت النجوم المتلألئة التي ترصعها في ليالي بغداد الصافية.

عائلة الجادرجي
وجدتُ في كامل الجادرجي شخصية قوية، يهابها الجميع، تشع حوله هالة من الاحترام والوقار والرسمانية، التي تفرض وجودها على الحاضرين. كان مربوع الجسد، أقرب إلى القصر، ذا شعر أسود، وعينين صغيرتين ثاقبتين من تحت العوينات، له حدس عجيب بمعرفة الناس وأهوائهم. كان موسوعة متحركة بمعرفة الناس وأصولهم وطوائفهم! مقتضب في الكلام لا يدخل بالتفاصيل العائلية. كان الحوار هو أساس العلاقة بين أفراد عائلة الجادرجي، فالانفعال والغضب لا مكان لهما في قاموس الجادرجي، لا يرفع صوته على أحد من أفراد العائلة، بل تحل المشاكل عن طريق الحوار. ولكنه حوار غريب، لا يجلس الجميع لمناقشة الموضوع المثار أو توجيه الكلام للشخص المعني، وإنما كان يدور الحوار عن طريق وسيط، والوسيط في أغلب الحالات كان ابنه رفعة، فهو الذي يعرض الموضوع أو المشكلة أمام والده، وإن لم يقتنع بوجهة نظره، يحاول طرحها من زاوية أخرى لإقناعه، لما كان يجمعهما من احترام متبادل ولم يكن يتجاوز ولو بكلمة يمس بها حقوق الآخرين من أفراد العائلة، ولكنه كان يسخر أحياناً إذا لم يعجبه الوضع.
كما كان يحب النظام، دقيقاً، في حياته، يسجل حتى تاريخ وضع (الكلوب) أو(اللمبة)،الضوء. يرتب ملابسه قبل النوم ويضعها في الخزانة. وتميز بذلك عكس زوجته منيبة، وورث رفعة عن والده النظام والدقة في حياته.
للجادرجي أربعة أبناء وبنت واحدة. كانت أمينة رقيقة وديعة مستقيمة كاسمها. نحيفة القوام، ذات ساقين طويلتين متسقتين، وبشرة بيضاء، ووجه أبيض، تتوسط وجهها عينان عسليتان واسعتان، وشعر ذهبي قصير، وأنف دقيق صغير ذا نَدَبُ لم ينج من حبّة بغداد التي عاثت فساداً في وجوه أهالي بغداد، ولكنها كانت رقيقة معها فلم تشوه أنفها الجميل ولم تترك في وجهها إلا أثراً خفيفاً!
كانت قليلة الكلام، وإن تكلمت فببطء وهدوء، ينساب صوتها البعيد عن حالات الانفعال، كجدول هادئ رائق نحو مصبه. كما كانت محافظة في سلوكها وتفكيرها، الذي كان لوالدتها دور في تنشئتها، لا تخرج عن عرف المجتمع وتقاليده حتى في اختيار زوجها. يجب أن يكون الزوج من عائلات بغداد المعروفة، العريقة في نسبها. فلم يخطر ببالها أن تخرج عن عرف العائلة، وتتزوج أحد الذين تقدموا لخطبتها من خارج ذلك المحيط.

انتحار حياة وابنتها مها
و كأن القدر لم يكتفِ بفقدان الأعزاء من الأصدقاء، وإذا بصاعقة تهّز كياننا، إذ لم نكن ندري ما تضمره الأيام لنا من مفاجآت! ففي يوم الأحد من شهر آب 1997، كان عندنا ضيوف للغداء، عندما رنّ التلفون في الصباح الباكر، واستغربت من ذلك لأنه لا يتصل بنا أحد قبل التاسعة صباحاً، ولم أعر أية أهمية لذلك التلفون، وعدت إلى النوم، ولكن لم تغمض عيني، قفزت من الفراش واتجهت إلى المطبخ من غير أن أمر برفعة في المكتبة، وبدأت بتهيئة المواد للشروع في الطبخ، لكن بعد ساعة جاء رفعة إلى المطبخ، وغسل القدور والصحون المتراكمة، واستغربت من ذلك إذ ليس من عادته أن يقوم بذلك إلا عندما ننتهي من الغداء أحياناً، ولكنه يوم الأحد، ومعي الفتاة التي تساعدني في مثل هذه المناسبات!
رنّ التلفون ثانية ، قفز رفعة نحو التلفون، وصعد إلى غرفته ولم يتكلم أمامي أو يذكر عما تكلم، وهذا سلوك طبيعي بالنسبة لرفعة، إذ اعتاد الا يذكر أسماء الذين يتحدث معهم عادة إلا إذا سألته.
بدأ الضيوف يصلون، فانشغلت معهم، ولكن رنّ التلفون مرة أخرى، رفعت السماعة، وإذا بالتلفون من بغداد، الكلمات خافتة متلجلجة، صمت التلفون، ليدق بعد لحظات، صرختُ بأعلى صوتي آلو آلو، وإذا برفعة ينتزع السماعة من يدي، ويذهب لغرفته بعيداً عني، ولكن بالرغم من انتزاع التلفون من يدي، لم أشعر بشيء غير طبيعي حولي، فقد كنت مشغولة أنا ومساعدتي في وضع الطعام على المائدة.
انصرف الضيوف بعد الخامسة عصراً، صعدت إلى غرفتي متعبة، قدّم لي رفعة نصف حبة مهدئ، قلت لا احتاج إليها ولكني احتاج إلى الراحة قبل أن يأتي كل من جيم ومريم في الساعة السابعة مساءً، واستغربت عندما لاحظته شرب الماء مع حبة مهدئ!
وصلت شقيقتي مريم برفقة زوجها جيم شو، في الساعة السابعة مساءً، حيث كان رفعة قد اتصل بهما مسبقاً. بدأ رفعة بالحديث، قائلاً بصوت هادئ، متحلياً بضبط النفس، لقد أنهت حياة حياتها مع ابنتها مها، ولكن نجت زينب بأعجوبة. اكتشفتُ عندئذ لِمَ كان رفعة يأخذ التلفون ويتكلم في غرفة أخرى، بعيداً عني، فقد كبتَ ما كان يعرفه عن المأساة التي حلت بالعائلة طيلة اليوم.
* * *
كنت قلقة على حياة، قلقة من رسائلها المتباعدة المتسمة بطابع الكآبة، كانت تتكلم عن روتين الحياة اليومي، وعن مصاعبها في ظل طاغية سد جميع المنافذ المضيئة في حياة الناس، عن الوقت الذي يتسرب من بين أصابعها في الطابور الطويل المصطفة به، لكي تحصل على ما يعينها وابنتيها من القوت اليومي.
كانت حياة تشعر من أنها مراقبة في الكلية والدار، إنه شعور مخيف، أبعدته مرات عديدة عنها. ولكن عندما نظرت من النافذة إلى حديقة دارها، التقت عيناها بعيون اخترقت الجدار، تجمدت بمكانها. عرفت أنها مراقبة كما كان زوجها قبل أن يصاب بجلطة في الدماغ. شعرت حياة أنها محاصرة من جميع الجهات، فطلبت عندئذ إحالتها على التقاعد، رفض العميد طلبها، ثم قدمت طلباً للسفر مع ابنتيها خارج العراق، ورفض طلبها، لأنها تحتاج إلى محرم.
كانت ابنتها مها تحس بنفس إحساس والدتها، تحس بإحباط كامل. عادت من المقابلة التي اجريت لها عندما قدمت على وظيفة، رُفضت بسبب اسم والدتها، وليس على الكفاءة. فقد أثبتت كفاءتها في امتحان المقابلة، وقبلت من قبل مدير الدائرة لكنها رفضت من قبل الوزير! ووجدت جميع الأبواب موصدة أمامها، فاستغلت غياب والدتها وشقيقتها زينب عن الدار لتنفذ خطتها، ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب عليها وفتحت قنينة الغاز، وانساب رحيق الحياة من بين أطراف بدنها.
عادت حياة مع ابنتها زينب إلى الدار، وأحست برائحة الغاز، وتوقعت ما كانت تفكر به هي، فقد خطرت لها فكرة الانتحار والتخلص من أعباء الحياة من قبل، لكنها فوجئت عندما سبقتها ابنتها مها. كانت مها ملقاة على أرض الحمام.
نظرتْ حياة حولها، مها ممدة أمامها، رفعتْ رأسها ونظرات اليأس تهيمن على ملامح وجهها عندما التقت نظراتها بنظرات ابنتها زينب! ولكن عادت ونظرت نظرة ساهمة وكأنها في عالم آخر. ما الذي ستفعله الآن، مها انتحرت، مها جثة هامدة أمامها!
* * *
أبعدتْ حياة فكرة الانتحار التي كانت تراودها لمدة من الزمن، فكيف تنهي حياتها وهي التي أعطت الحياة لابنتيها؟ كيف تخنق تلك الحياة. ولكن فكرة الانتحار والتخلص من الحياة ظلت تراودها ليلاً، في الكوابيس التي كانت ترزح تحتها. شممتُ رائحة اليأس في رسائلها المتقطعة المتباعدة. وقلت لا بد أن تخرج من تلك الأزمة كالعنقاء من الرماد.
لكن أحست حياة بوحدة المكان، بالغربة التي تطوقها وتطوق أبنتيها، كيف لها التخلص من هذا الطوق الذي أخذ يضغط عليها كموت بطيء؟ لم تعد ترى ما حولها، حددت رؤيتها بين جدران الدار، وفكرت بالتوقف عن الوجود. شعرت أنها تحتضن الموت وتعيشه! لكن تراجعت عن الفكرة ثانية.
حاولتْ مرات عديدة أن تتجنب السقوط في الهاوية بعد أن انقطع جسر الأمل واغلقت جميع الأبواب أمامها. حاولت أن تمسك ببصيص من الأمل، ولكن ذابت الكلمات المعسولة الحلوة التي كانت تؤجج طموحها في الحياة، وانقلبت إلى أفكار صامتة في أعماقها.
أصبح الوعي بالوجود، ليلاً دامساً طويلاً بلا نهاية، وانتظرت الفجر ليغمر ضياءه ثانية ويجدد آمالها، ولكن الظلام غمر آخر ومضة من ومضات الضياء في داخل نفسها، عندما شاهدت مها ممدة في الحمام أمامها. خيم اليأس بفكيه ولا أمل من أن ينقذها من أظافره التي غرست بعمق تنهش أحشاءها. تدور في دوامة الإعصار الضاغط بفكيه، وأدركت أن كل شيء قد انتهى، ومها ما زالت ممدة أمامها.
دخلتْ الحمام وأوصدت بابه، وشعرت أنها تتجه نحو نهاية الهاوية، مرت لحظات من الرعب، ارتعشت أوصالها في الفراغ المظلم ومرت لحظة طويلة في ذلك السكون، حينما توقف قلبها عن النبض، وانتهت حياتها.
حاولتْ مرات عديدة أن تتجنب السقوط في الهاوية بعد أن انقطع جسر الأمل واغلقت جميع الأبواب أمامها. حاولت أن تمسك ببصيص من الأمل، ولكن ذابت الكلمات المعسولة الحلوة التي كانت تؤجج طموحها في الحياة، وانقلبت إلى أفكار صامتة في أعماقها.
أصبح الوعي بالوجود، ليلاً دامساً طويلاً بلا نهاية، وانتظرت الفجر ليغمر ضياءه ثانية ويجدد آمالها، ولكن الظلام غمر آخر ومضة من ومضات الضياء في داخل نفسها، عندما شاهدت مها ممدة في الحمام أمامها. خيم اليأس بفكيه ولا أمل من أن ينقذها من أظافره التي غرست بعمق تنهش أحشاءها. تدور في دوامة الإعصار الضاغط بفكيه، وأدركت أن كل شيء قد انتهى، ومها ما زالت ممدة أمامها.
دخلتْ الحمام وأوصدت بابه، وشعرت أنها تتجه نحو نهاية الهاوية، مرت لحظات من الرعب، ارتعشت أوصالها في الفراغ المظلم ومرت لحظة طويلة في ذلك السكون، حينما توقف قلبها عن النبض، وانتهت حياتها.
صدحت أغنية تفاؤل تحت ركام الحزن الذي خيم على الدار. فقد نجت ابنتها زينب من الموت!! لكن الطريق كان طويل وشائك بالنسبة لها، وهي الوحيدة في هذا العالم، عليها أن تجتث المأساة التي خلفت موت والدتها وشقيقتها من أعماقها. عليها أن تعيش بلا أوهام، وأن تنسج أحلاماً جديدة مليئة بالتفاؤل. قررت زينب ألا تخضع لنفس المصير الذي خضعت له والدتها. بالرغم من أنه لم يكن هنالك أحد ليأخذ بيدها ويقودها إلى شاطئ النجاة، بعيداً عن هوة الموت، إلى واحة التفاؤل والحياة، حتى وصلت شقيقتي مريم بعد أيام قليلة من لندن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram