يُمنهج ستار نعمة موضوعة الجسد في إطار قيد الحيّز،محترماً شروط التكوين وتوازن المنظور، ولا يدع البدن طليقاً- وهو ليس كذلك هنا أصلاً- من وجهة نظر البعد المعرفي للبدن والوجه والجسم والروح بوصفه معادلاً مفهومياً وفلسفياً للكينونة والوجود! إنه ذات نفسه، ف
يُمنهج ستار نعمة موضوعة الجسد في إطار قيد الحيّز،محترماً شروط التكوين وتوازن المنظور، ولا يدع البدن طليقاً- وهو ليس كذلك هنا أصلاً- من وجهة نظر البعد المعرفي للبدن والوجه والجسم والروح بوصفه معادلاً مفهومياً وفلسفياً للكينونة والوجود! إنه ذات نفسه، فرديته في كليته، وليس في اسمه أو شهرته. إن الجسد هنا، ليس إعلاناً- أو سلعة مادية- معرضاً للإشهار والتسويق، بل هو كيان ذائب في وحدانيته وأسلبته وحبسه، برغم ماقد يتراءى للقارئ المتعجل للنص المرئي من شُبهة "إيروسية" متماهية في الحركية، ومبنيّة في ملامح الوحدات والعناصر العضوية،المغطاة بطبقة لونية، أو بخطوط هندسية قسرية، أو تأكيدات فوضوية، تظهرها مكبلة دائماً بحيثيات التقنية ومقاصدها المحسوبة، كما تلك الطبقة من الخطوط التي تبدو عشوائية وهي تظهر قوة الفحم الأسود على شفافية الإكريلك وزهده الصباغي أو على نواتج الأحبار وسيولتها المائية، وثمة أيضاً الخطوط الهندسية وتشابكاتها الدقيقة الضاغطة، لنرى الوجوه، مثلاً، في الأرضية أو العمق، وهي فضاء برغم انفتاحه يبدو محبوساً ومغلقاً، مقلوبة تارة ونائية، برغم تقاربها أو تقابلها، نتيجة ماترمز إليه الخطوط من حصار وجور، على راحتها وتطلعها، حتى بدت كما لو انها كانت وجوهاً لغائبين وسط نور ذاتها . لكنه هنا، تحت عتمة القبو أو القبر أو سقف العالم، الضاغط، إنها وجوه مسبلة الأجفان، تنظر ربما إلى داخلها كما بصيرة العرفاني أو الزاهدالمتصوف،وذلك بمطلقه هو حصار الجسد والروح معاً، ولا أقول "الكبت الآيروسي" أو التأويل الفرويدي للكبت، إن التعبير أجلى من ذلك وأعمق، في الجسد المتسع الذي يشتمل وجود: الإنسان والأرض والإرادة والرغبات الحية. قسّم فناننا ستار نعمة، عرضه على أربع أو خمس مثابات بصرية، ومقاربات تقنية، خلال قرابة العشرين نصاً،المعروضة على جدران قاعة حميمية، وبأحجام واحدة غالباً،جعل الجسد في بعضها، متماهيا في ضبابية لونية، أو كأنه بقية من أوابد رسوم حائطية فعلت بها عوامل التعرية والتراكم فعلها، فبات بعضها واضحاً ، وتداعى البعض مع غيمية الخلفية أو روح الريليف، مع ماترك عبر تقنية الأمطار الأمزونية من سيول الخطوط المتعرجة من أعلى النص إلى القاع، تعرجاتها وحفرياتها، كما لو كان يسعى لمنح النص بعداً ثالثاً، وملمساً إيهامياً مثابة مقاربة بصرية ونفسية لمعنى المعاناة الجسدية الخاصة أو البشر-نسوية بعامة.
ومن ثم راهن الفنان على النقيض البصري بين العتمة والضوء ليمنح الوضوح الجزئي أو التام لهذا التفصيل أو ذاك من جسد اللوحة، كأن يُظهر النهد الأيمن أو الأيسر، جلياً، وبعض ملامح الوجه برغم أسلبته وتشوهه، إنه يُضيَّع الشبه، ويشتغل على التشويه المحسوب، كي لا يـُزيّن التقنية والشكل، من دون أن ينجرف بالنص المرئي نحو "الاجتماعي" المباح، أو المتخيّل المريض لثنائية الجسد والجنس والفعل الآيروكي. من ثم فإن هذا الضبط السلوكي للشكل الفني، يدلل على عقلنة فعل الرسم، ومهارة الفنان في جعل مرسوماته بمرتبة التصوير الجاد، والنأي بها عن شـُبهة الإعلان النفعي ؛" الأفيشات الدعائية عن السلع التجارية النسوية" وبذلك فالنص لدى ستار نعمة، لايستجدي الغرائز، وهذه طاقة إيجابية تعبر عن رقي التعبير، ولملمة التعبيرية الدالة، وجعلها لاتفيض عن الحاجة ،بل تكتفي بالبوح والإيحاء وتشير.
- أيضا ثمة الاشتغال على الطبقات اللونية، الشفافة، ما يثمر تخصيباً للنص المرئي يكوِّن البدن -بلونيته الزاهده- مادتَه الخام، ثم تعلوه-بصرياً، طبقة تقنية صارمة وعصبية مرات مدروسة غالباً، تتمثل بتلك الضربات العريضة للفرشاة، أو أية أداة رسم؛ السكين، أو الإسفنجة، أو أصابع الكف، وما توحي بـ"الشخبطات" العصبية.
- وقد يلجأ ستار نعمة إلى غسل طبقة الألوان الإكريلك والتخفيف من سماكة صباغاتها ويُبقي على دُرجات (تونات) لونية متفاوتة كافية لإظهار ما تبقى من الشكل الجسدي ، الإنساني، مغموساً بعرقه وتعبه وأساه، أو ربما بآثار ليلة حمقاء أو اغتصاب.
-محاولته لجعل بعض مرئياته تبدو كما لو كانت ذات بعد إضافي، وهي صياغة استعارية من محمولات النحت البارز -الريليف- في الأوابد السومرية والجداريات الآشورية، أو الرسم الهندسي ثلاثي الأبعاد (الأوتوكاد) في تقنية الحاسوب ، فتتبدى كناية عن الكتابة أو الرسم على الزجاج، أو انعكاسات الواجهات الزجاج في المحال التجارية، كما لو أنه يريد إظهار زيف المدينة الغارقة في استهلاكية السوق العولمي،-هنا- عبر جزئية من شكلها المحبوس على النمط الإستهلاكي، (فاترينات الأزياء، والمانيكانات النسوية، كما يبدو مظهرها على عجل في نظرة السابلة وعابري الرصيف، طبعاً تشكل المانيكان كناية عن شكل امرأة محبوسة في إطار وظيفتها التسويقية، الإعلانية، وُضعت وراء زجاج، ومُنحت شكلاً تعبيرياً دالاً على نوع السلعة المعلنة،بدءاً من الملابس الداخلية حتى الفساتين الأنيقة، إنها تغري لكنها لاتتحرك، كجسد، مقيدة وغير حرة إلى ما لانهاية وظيفتها!!
هل نساء اللوحات محض مجموعة كنايات مجازيةعن نساء العرب الواهنات المحبوسات والمعذبات داخل أقفاص الزواج القسر أو قيود التقاليد، وجُدرها العالية، أو في سياق الرغبات المكبوتة؟ أم هن بائعات السعادة الآنية، حين يتحول البدن النسوي إلى سلعة ترفيهية مؤقتة، بضغط من ظروف موضوعية وذاتية، حتى لو أظهرت امرأة النص أجزاء من البدن جميلة وأخاذة، لكنها- بالمجمل -محض (أيقونات ) حزينة!..ولانريد هنا أن نذهب بتأويل النص إلى مرجعيات اجتماعية ،فالخطاب الاجتماعي داخل خطاب النص المرئي(التشكيل)، عند فناننا ستار نعمة، قابل للتأويل ويحتمل عديد القراءات، وتلك فضيلة أخرى من سمات هذه التجربة (المعرض).
- تستعين وحدات البدن، أو البدن كله ببعضها، في التجاور أو التماثل والتناظر المأمول والتداخل والتوحد (لوحة الملصق مثالاً) فلا تستدعي الحالة هنا شكل الشبق المتراتب، بقدر ما توحي بمحاولة التستر من العري الشامل بلم الجسد العاري داخل الألبسة والقبعات، إلى صنوه وخدنه ومحبه، كأنه يحتمي به، وهذا النسق التعبيري الجمالي ،يسترجع في ذاكرتنا مشاهد أسرى الحرب والنساء السجينات العاريات ،تحت سطوة النازيين، وفي معسكرات الاعتقال،أكثر مما يثير الشهوة ولذة الجماع المتتالي أو الجماعي وقوفاً!!- كما لوحات سجناء ابو غريب في موضوعة الاغتصاب الكولونيالي-. هذا الترادف العمودي المتداخل، إنما هو جدار بشري يعكس معاناة الإنسان المجرد من حريته وإرادته. وهذه القراءة استنباطية مقترحة - ليست تعسفية- وقد لاتتفق مع أيما قراءة لشخص آخر، أو لمفهوم الفنان وتوجهاته حين يرسم هذه العلاقات المتواشجة.
-اعتمد الفنان أيضاً على شكل آخر من الصياغة التعبيرية لموضوعة الجسد كينونةً، حين جعل تقابل الوجوه تحت طائلة خطوط هندسية مهيمنة من عل، ومع ذلك تركت مساحة جلية على الوجوه ذاتها ، وهذا المظهر من التعبير السياقي، يستكشف ما ذهب إليه الفن الحديث وما بعده من إدانة لحصار العمارة الشاهقة، حيث يضيع القياس الإنساني، حين يتأتى المنظور من عل، كما لو كان من "عين النسر" كما تميز به فن يحيى الواسطي في منمنماته "مقامات الحريري"، لذا بدت الخطوط القوية كأنها نازلة من سقف عال على الكائن الإنساني، أو بعضه ،المحبوس داخل هذا الجزء الحازم من حصانة المكان ، كما لوكانت قضباناً لسجن.
ولأن المنظور يتجلى من فوق مستوى النظر، تبدو الوجوه مقلوبة، مثل الوجوه الغائرة في عمق البئر ، منظوراً إليها من فتحة عدسة كاميرا (بوكس) قديمة، ميكانيكية الحركية في مكونها الأتوماتيكي المعدني، كما في كاميرات الصور الشمسية العتيقة ذات خرطوم القماش الأسود، تفتح العدسة وتنغلق على صورة مقلوبة قبل التظهير، بل أن بعضها يتحدد بخطوط قوية وظلال ومساحة منزلقة إلى الأسفل منغمسة بالأسود والرصاصي، مثل "الجُب" أو قاع البئر، فهل ثمة يوسف هناك، أو امرأة العزيز؟؟
- الصياغة الأخرى في التقنية والتخصيب، أظهرت أن الفنان ستار نعمة جعل فضاء اللوحة أقرب إلى الحياد اللوني، الباهت، أو الممسوح،(الأبيض العاكس لمحيطه) وعليه نبتت نصبيات بصرية، بضربات عريضة متقاطعة مثل أخشاب الكنائس في بعض سقوفها التقليدية، أو الصلبان في لوحات عصر النهضة وما تلاه(نزول المسيح من الصلب)، إن هذه التعبيرية الهندسية، جسدت- بالاستعارة والمجاز- أو بشكل المقاربات التقنية للصلبان الثقيلة والأعمدة المتقاطعة، تعبيرا أوفى لمحنة الإنسان المعاصر، الغريب، المنفي، أو المحبوس والمستلب، بل الأكثر استلاباً، من محض غربته، إنه جور خارجي سلط على الكائن، وهكذا تبدو هذه التقنية مقاربة سيكولوجية لفاقدي الأوطان، حين يعانون العزلة في ما يسمى بالوطن البديل أو الثاني، ويأخذهم الحنين، أو يحتمون بالجسد واقية وحاضنة.
في هذا الفضاء أدخل الفنان مسحة لونية هنا وهناك، ربما ترميزاً لأمل مأمول، وإن كان شحيحاً ، لحياة أفضل.
هذه المعالجات التقنية تؤكد بأن الجسد برغم حركيته في النصوص المرئية لفناننا ستار نعمة ، لاينبجس عنه جنس صريح، أو غواية ولذة زائلة، إنما اكتفى بالبوح والتعبير، ولم يُغر، بل أوحى بما يعانيه بوصفه كينونة محبوسة.
* هذه المقالة اخر ماكتبه الراحل
محمد الجزائري