TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > حوار الأمكنة في أعمال ندى يونس... الهدوء الأنسب للجمال

حوار الأمكنة في أعمال ندى يونس... الهدوء الأنسب للجمال

نشر في: 30 أكتوبر, 2015: 09:01 م

مثلما يحتاج (... الجَمال) -دائماً- إلى حقيقةٍ تداني وتحققّ وجوده، يتهيّب(... الهدوء) ويسمو لكي ينال مرتبة الشرط الأنسب والأقرب لحقيقة ذلك الوجود الباهر للجَمال. لقد نَهلت الحداثةُ في عموم وخواص رؤاها-كما يشير د.عقيل مهدي في مقدمة كتابه(السؤال الجمالي

مثلما يحتاج (... الجَمال) -دائماً- إلى حقيقةٍ تداني وتحققّ وجوده، يتهيّب(... الهدوء) ويسمو لكي ينال مرتبة الشرط الأنسب والأقرب لحقيقة ذلك الوجود الباهر للجَمال.
لقد نَهلت الحداثةُ في عموم وخواص رؤاها-كما يشير د.عقيل مهدي في مقدمة كتابه(السؤال الجمالي)-من الكتب واللوحات والموسيقى وفنون العمارة والزخرفة والدراما والحياة والتأريخ،والمدن ومن حدوس المستقبل أيضا، بمثل هذه الكثافة تتباين (الألفاظ) في تأسيس (المعنى) عند رامبو،وتنتصر موسيقى اللون عند كاندنسكي،أو موسيقى الألفاظ عند السيّاب،فيما يتواصل تدّفق ينابيع الحداثة ليغمر كل متممات الحياة،وفي شتى حقول وصنوف المعرفة والفنون المتوالدة من رحم بعضها،يتسَامى الفن- بمفهومه الكوني العام- لكي ينقذ الإنسان من كل حالات الأسى والجهل والإحباط،وليأخذ به مُحلقاً في فضاءات تلاقي نواتج الذائقة الجمالية،كونها أساساً جوهرياً لقيمة وغايات الفن،فضلا عن قيمة ما ينتجُه الفنان نفسه،إذن سيكون من البديهي استحالة فصل مفاهيم الجَمال،عن طبيعة وحقيقة ذلك النِتاج الخلاّق الذي شغل البشريّة ووسعّ من مداركها وعمّق من وجودها فيها ،وما نتوقع أن يأتي لاحقاً.
يَلزمُنا الكثير من الجهد والبحث والحث،من أجل فحص تلك الحقائق،وتطويع مبادئها نحو كل ما تحّقق في مسارات وتطورات ما شهده راهن الحياة،بغية تصوّر ما يمكن أن ينتظرنا في المستقبل من متغيرات و تحوّلات،دون التفريط-طبعا- بما تحققّ في ربوع الماضي الذي سيكون بمثابة الموشور الذي خَرجت منه كل تلك المتغيرات،فيما ستبقى خواص التمّتع بالجَمال من الفن-في ظني- في مأمن عن كل ما قد يحصل،ولهذا الاستنتاج صلةً وثقى مع ما يُبغيه معنى (عِلم الجَمال) عبر مُقتربات أهمية الإحساس الدائم بالحاجة إلى مسببّات الراحة والدعة والهدوء،كما في كل ما يمكن أن تنقله الأحاسيس من عواطف و رؤى وتصورات و زخف خواطر وتمنيات.

صمت المكان ... لغة الهواجس
في الوقت الذي شَكّل(المكان)حتميّة حضوره الطاغي-سراً كان ... أم علناً- في مجمل مهارات وتطلعات أعمال التشكيليّة(ندى يونس/بكالوريوس هندسة إلكترونية)،فإن ميولها التثمينيّة لذلك الحضور ظلّت تؤشر بسطوة هواجس و متواليات أحلام مُؤجلة صوب أبعادٍ نفسيّة،وجدانيّة داخلية ،أكثر مما جاءت تؤشر نحو مُمكنات وشواغل بحتة من عالمها الخارجي (فيزيقيا)،وحيال ذلك أضحت تتخذ مواقف إيجابية جداً في ترجمة تلك الأحاسيس والتصوّرات بحرصٍ واختيار شديدين،لما فيها من خصوصيّة وحميميّة لتلك الذكريات الخاصة بهذه الفنانة التي تبنّت الرسم طوعاً ذاتياً ومراساً متواصلاً منذ تفّتُّق صدق ميولها،والسعي لتطوير مهاراتها التقنيّة باتباع أساليب فنيّة متعددّة،قبل وبعد التحاقها بمرسم (بندك آرت كاليري) الأردن-عمّان/ 2006،الذي أسهم-باعتقادها- في تشذيب وتطوير أدواتها التعبيريّة،وأن يحدّ من واقع تفكيرها ب(الهندسة)كعلم صِرف من جهة،وما بين(الفن) من كونه عِلماً وعَالماً مفتوحاً من جهة ثانية.
لقد أضحت ندى تُعيد تشكيل ذاكرتها ولملمة شظايا أحلامها وهواجسها،بما يُعيد لها نهكة ورائحة تلك الأمكنة،وبالقدر الذي يجعلها قريبة- دائماً- من عَالمٍ مُتخيّل فقد صلته الواقعيّة بها،منذ رحيلها عن العراق قرابة أكثر من عقد،ولم يبق منه(أي ذاك الواقع ) سوى خيطٍ رفيعٍ من نسيجِ مُخيلةٍ،حِفلت تترواح ما بين شرود ذكريات ،وزهو كبرياء وحنين مُتدفّق لمدينتها(الموصل)التي وُلدت فيها.

المكان ... بمثاباته الروحية
وَسمت(ندى عدنان الحاج يونس) سياق تجربتها بنوعٍ من التأني والحذر والانتباه اليَقظّ،فاستطاعت أن تفيض سحراً وتعبُّداً بـ (المكان) كقيمةِ تصوّفٍ روحي،راح يحتمي ويلوذ بمتعة مثوله بالصمت وتشرّبه ببلاغة ما يحوي من دلالات بوحٍ وسلامة نطق تعبيري خاص،يسعى لكي يُلّخص للكثير من النوازع الداخلية والمكابرات والمكابدات الدفاعيّة،إلى جانب تدفّق سيول مشاعر وتزاحمات أفكار وتوريد رؤى وضخ تخيّلات وأماني وتوقعات ومفاتن أحلام وأحزان خفيّة،تباهت بارتداء أزياء تنويعات لونيّة وتقارُبات مُوحية لروح النقاء والطُهر والدعة والهدوء والألفة والسكون في خلجاتِ كل مسامة من مساحات لوحات،من تلك التي تماثلت وأنضوت تحت مظلة الرسم التكعيبي بعموميات فتحه على يد وعقل وعبقريّة ذائقة وبصيرة (بابلو بيكاسو.)
بيد أن ما جرى وسَار به إتجاه ومحاولات ندى هو نسق مغاير من حيث خصوصيّة المشهد وطبيعة حَواس اللحظة الحاضرة والمُتجهه نحو نوبات من تركيز وتأمل ذات نبرات استرجاعيّة لحالات ذهنيّة من صورٍ و أماكن غادرت وجُودِها العياني،وظلت ملامحها تصوغ موسيقاها -بصمت محبّب ومهيب-على منوال أوتار وإيقاعات ذلك الحنين والشوق العارم للماضي،الذي تُحاول استعادته الفنانة بكل ما تملك من ذخائر الوعي والوجدان والصدق واللوعة،على هيئات واجهات لأماكن وأزقةٍ وذكريات من مدينة كانت عامرة بالحركة والناس وطافحة بطاقات فرحٍ غامرٍ كانت قد غادرتها بغتةً هكذا -ربما-من غير رجعة.
مهدّت ندى من خلال مهارات التعبير إلى جملةٍ من تكثيفات واختزالات قصديّة توافدت متناسبة مع لحظات تصوّفها وتوصيفاتها لمهابة السكون وتبعات تعلقها بالجَمال المُصاحب لنبل ذلك الهدوء،عبر قدرة استقباليّة كامنة في ثنايا دواخلها الصادحة بالتماهي مع حالاتها الشعوريّة،وسريّة العلاقة بين ما بات يَفرضهُ المكان المكان من واقعيّة حضورٍ مُوثِقٍ على هيئة نسائم ذكرياتٍ،وتناغيات وجدانيّة غارقة في لجج البحث عن لغة أخرى تزيد من مقاصد استحضارها رسماً بالزيت المُخفّف جدا كان،أم لصقا (كولاج) مستلا من أعمال فوتوغرافيّة قديمة أو حديثة على حدٍ سواء.

تحفيزات الذاكرة الانفعاليّة
يتضحُ هذا النسق التحريضي لفعل الذكرة وتحفيزاته في أغلب متواليات أعمالها،كما في معرضها الشخصي الأول الذي حمل(أنا عرق) /2007والثاني بعنوان(الطريق إالى العراق) في العام/2010، المقامين في العاصمة الأردنيّة- عمّان على قاعة(بندك آرت للفنون)،فضلاُ عن مشاركات في عدد من المعارض المشتركة والملتقيات الثقافيّة والاجتماعيّة والقضايا الإنسانية التي رافقت ثبات تجربتها،وطبيعة موقفها من قضايا الإنسان وعلاقته بالبيئة كما جرى عرض عدد من لوحاتها ضمن كتاب(Visual Kulture) للكاتب(ثرد فولد) في جامعة أوسلو في العام/2009 مع مقالة تتضمّن دراسة عن علاقة الفن بالبيىة،وتأثير الحرب على الأعمال الفنيّة،الكتاب يدرّس - حالياً- كمنهج دراسي لطلبة الفنون في النرويج،فيما قامت المنظمة الدوليّة للهجرة باستثمار عدد من لوحاتها في تقويم(رزنامة) صدرت في العام/2008والتي وزّعت منها أكثر من 5000في عددٍ من المنظمات الدولية والإنسانية في مختلف بلدان العالم.
وليبقى الرهان قائماً في عموم توصيلات محاولات استجاباتها نحو استثارة الماضي بواقع حال أعمال لوحاتها المُوسومة بفرض جماليات انحيازها الخاص للمكان،كواجهات تعويضيّة لما يسكن تلك الأمكنة الغارقة بالسكون والصمت المطبق،وخِلوها من أي وجود للإنسان،سوى رصف منحى هندسي،يتسم بالصرامة والحزم،من خلال تعامد الخطوط على نحو يؤكد طغيان معادلات تعويضٍ وترويحٍ للنَفس ومقاومة الضجر والإحساس بالغربة والترحال،بعد ما أضحى المكان بمثابة مُعادلٍ موضوعي لعموم تواجهاتها،وعنواناً تحليليلاً لمداخل وعيها ومكوناتها الفكريّة،وجدارة ملكات وتجاوراتها المُهمة والنابهة في مجال تبنيها رسم الطبيعة وجوانب حيّة من الحياة،الى جانب إجادة تحقيقها في رسم الوجوه (البورتريهات)،بما يواشج من عمق قيمة قدراتها التعبيريّة،ومسالك نِهجها الواقعي والأكاديمي-أيضا-بحيث تتحّد لغة التعامل ما بين الأشياء وحيثيات موجودات أعمالها بحمية نوعٍ حانٍ من إصرارِ حرصٍ يفيد بتوريد لغة انفعاليّة تعتمد الدلالة والإشارة والتلميح الذهني عما تلوذ به أغلب عناصر ومجسات وحدات تعبيريّة وتخاطرات تجريديّة،تعاضد فكرة إقصاء الوجود الفعلي للإنسان،ولتعتمره ضميراً مستتراً لكل تلك الوحدات.

غياب ... دائم الحضور
لعل الإبقاء على استذكار ما تنوي وتبغي وتبحث الفنانة عن أماكن وعوالم،تقصّدت تَركها خاليةً من أي ملمحٍ لوجود إنسان،باستثناء بعض أعمال اللصق(كولاج) - كما نوهنا- حيث نلمس ونتحسس تلك العوالم موهونةً بمحتويات من ذخائر متحف الذاكرة،أو مُقتطعة- قصداً-من صورٍ فوتوغرافيةٍ لأماكن قديمة ووجوه متعبة،جرى اختيارها بعناية واحتكام ذاك القصد الموازِي والمتساوق والمتماسك مع موجودات وحدات عناصرها،كإجراءات تشكيلية تغالب بوجودها صراحة الألوان الزيتيّة بحذرٍ واضحٍ،يتسّم وحقيقة قسوة ودقة الفوتوغراف الخاص بتقنيات التصوير(الأسود والأبيض)- تحديداً- وبهوى هدوءٍ محمومٍ،حافل بالترقب الذي يميّز لوحاتها في هذا المجال عبر تتابع تداخلات يقظة ومحسوبة لمصفوفات وخطوط حادة كالتي تلئم دقة العناية بالرسم الهندسيّ،وتحديات صرامة ذلك الغياب المسكون بحضورٍ موحشٍ ومقفرٍ-عادةً-.
جملة من مشاعر وخواطر وتداعيات حُرّة تنوء بها تصورات(ندى يونس)،تداري بها محاولات التقليل من شأن تلك الصرامة القاطعة لسيل وسير ذكرياتها وقوافل حنينها المتواصل لقيمة تلك الأمكنة التي غادرها الإنسان تحت وطأة ظروف عدة ،فهي لا ترسم بعقلية امرأةٍ تقليديّةٍ مُوغلةٍ باهتمامها بحاجات التزيّن والحُلي ومكملات الجمال العادي،المستهلك،بل تسعى لتغور في رحاب وكوامن ما يغلي في روحها وعذاباتها المتأتية جراء الرحيل والفقدنات والتُّغيرات التي أصابت حياتها،متخذا من الرسم كوسائل دفاع وملاذات نشاط روحي،يعيد لها نشوة الإحساس بأن الحياة تدفع بها نحو حالات من التقصي والبحث عن خوالص أشياء وافكار و رؤى،تشي بنوع من توصيف خاص وتكثيف نوعي لاختزالات ما يَعتمر بها من نيران أسئلة واعية،سرعان ما تُخمد نار الإجابة عنها وتُحشر في دروب وممرات مسارات تلك الأماكن التي تقترُحها رسماً متخيلاً ناتجاً عن نسج حوارات داخليّة متواصلة مع ذاتها،قد تكون أبلغ وأقرب إلى ساعات التوّحد والخشوع وصولاً إلى لغة الصمت،التي تُغّلف روحها،كما جاءت تُغلّف أرواح من كان يسكن تلك الأمكنة بشواغلها ومفاتنها ومقاصد متمماتها الجماليّة،بعد أن أضحت خالية ومقفرة،تعيد تراتيل ما تبّقى منها من ذكريات ترّسب في أنسجة ومفاصل حلولٍ مُقترحة وُمعدّلة تبعاً لاستجابات واستحكامات ما تهوى (ندى)،وفق ما تملك من مهارات تفكيك قصدي لمحتويات المشهد،ومن ثم السعي الى تمهيد وتفكير إجرائي بالكيفيّة التي ستُعيد بها تشكيل ما تم تفكيكه وفق مقدرات ومقاسات أحلامها وتمنّياتها وخلود تلك لحظات الهاربة منها،مع فائض قيمة جملة أخرى من مشاعر متداخلة،وتلامع خواطر وإضاءات وجدانيّة مرّت بها وتركت حضور غيابها-متجسّدةً-في تفاصيل وطبيعة الحالة تلك اللحظات التي كانت تحياها وتمرّ بها،وبما يجعلها يُتيح لألوانها وحِمم خطوطها أن تتبارى بديناميكيّة تشخيصيّة،تتلاءم مع تركيبات وحدات عالمها المرئي الساعي إلى فرض تجليّات صوفيّة بنبضاتً مُتناغمٍة نجحت في شحن تعالقات دراستها ومزاولتها للهندسة إلى جانب الرسم كمحفزات تفاعلٍ وتواثبٍ ناشط ما بين مَلكة هواية ولوازم احتراف في خلاصات تجربة عراقية مثابرة شاءت لها ظروفها أن تنمو وتتواصل خارج مدار الوطن-الأم- رغم تمسُكها بعضويّة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين،كذلك رابطة الفنانين التشكيليين الأردنية،ولها مقتنيات في كل من العراق /الأردن /أيرلند /أسبانيا /المانيا /والمغرب العربي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram