جميع السياسيين يتحدثون عن القيم المهنية للإعلام، وعن ضرورة التزامه بأخلاق المهنة، ومصطلحات ضخمة كبيرة، الا ان الغريب ان معظمهم لا يطبقون على أنفسهم ميثاقا لمهنة السياسة يلتزمون بالحد الادنى منه.
دائما ما أعود الى ونستون تشرشل الذي قال ذات يوم "ان الديمقراطية هي افضل الأنظمة السيئة لكن عندما تسوء يكون سوؤها فظيعا"، وسوء الديمقراطية هو الذي جعل تشرشل يحترم الإعلام حتى وجه الاخير سهام النقد اليه ودفعه الى ان يقاعد، يذكر المؤرخ البريطاني جيفري وبست احد ابرز كتاب سيرة رئيس الوزراء البريطاني السابق، ان تشرشل حظي بنصيب وافر ومتعدد الجوانب من المقالات والتقارير التي هاجمته، فمن التهم التي وجهت له آنذاك هي بيع بريطانيا بسعر زهيد إلى الامبريالية الاميركية الجديدة.
ويضيف كاتب السيرة ان تشرشل حين قرأ هذا التقرير ابتسم وقال لأحد ضيوفه "هل تصدق، لم اقبض عمولة هذه الصفقة بعد" ويتساءل المؤرخ جيفري وبست ما الذي يستطيع السياسيون الآخرون إضافته إلى سجل تاريخ حياتهم اكثر من خدمة وطنهم خلال سنوات حرب ضروس؟ واي رجل آخر غير تشرشل يستطيع وهو في الثامنة والستين من عمره ان يقطع جواً اكثر من عشرة آلاف ميل في طائرة ضيقة، كثيرة الضوضاء وغير مدفأة لكي يصل إلى طهران والاجتماع بستالين ثم العودة منها سريعاً والانتقال إلى الجبهة لزيارة قواته؟ ولكن هذا الرجل حين واجه عاصفة اعلامية شرسة تقبل الامر وذهب ليجلس في بيته الريفي، ليكتب في مقدمة مذكراته "لاشيء أبقى من بلاد مزدهرة"، كان لا يملك اكثر من ان يجلس على سريره الواسع ليسطر، اهم ما خطه سياسي في التاريخ، مذكراته التي استطاع من خلالها ان يدخل نادي نوبل للآداب، نعم أكثر تطورا وازدهارا وعافية،" اتمنى ان يقرأ جميع سياسينا مذكرات تشرشل ليعرفوا كيف استطاع هذا الرجل الضخم ان يعيد كتابة التاريخ وان يسطر هذه الكلمات المدهشة:
“المتعصب هو شخص لا يريد أن يغير رأيه ولا يريد أن يغير الموضوع، أما الوفاقي فهو شخص يغذي تمساحاً آملاً أن يكون آخر من يأكله”.. تزدهر الامم بقادة يصرون على اشاعة روح التسامح والامل والعدالة الاجتماعية، بينما نغرق نحن مع ساسة لا يتوقفون لحظة واحدة عن بث الكراهية والتفرقة الطائفية ورفض الاخر.
يروى عن بيكاسو انه استقبل ذات يوم ضابط الماني في مرسمه فراح الزائر يجول في المرسم حتى وقعت عيناه على لوحة " جرينيكا" وامام هول الصورة التي جسدها الرسام للدمار الذي احدثه قصف الطائرات الالمانية للقرية الاسبانيةـ سأل الضابط بيكاسو: هل أنت من صنع هذه البشاعة؟ فما كان من الفنان الا ان يرد: "بل انتم من صنعها"ـ فقد كان الضابط يعتقد ان خيال الرسام هو الذي هول الاشياء، وان الخطأ في الصورة لا الواقع.. هذه الحكاية تذكرني بالاتهامات التي توجه للاعلام في كل مناسبة من انه يمارس دورا تحريضيا، ويسعى الى تضخيم الصورة على حساب الواقع، بل ذهب البعض الى ان يقول ان سبب الازمة السياسية هو الاعلام الذي لايريد للساسة ان يلتقطوا انفاسهم ويجلسوا الى طاولة واحدة.
ففي كل مرة تعود النغمة هذه تتردد: الحق على الاعلام..وكأن الواقع الذي نعيشه غير مأزوم أصلا.. وكل ما يكتب ويقال في الاعلام هو مجرد لغوٍ وبهتان تبطله الوقائع والشواهد التي تؤكد بأننا نعيش أزهى عصور الاستقرار السياسي والرفاهية الاجتماعية، في ظل دولة وساسة شعارهم الأول القانون ثم القانون، ولهذا فساستنا مصرون ان يقولوا للناس لا تصدقوا الإعلام فيما يكتبه وينشره فهو يريد تعطيل مسيرة التطور والتقدم التي تشهدها البلاد، وان يسيء لمكانة العراق الجديد، من خلال سطور عملية تريد أن تحرف الحقائق وتوهم الناس بالخراب الذي يحاصرهم، بينما الواقع يقول إننا نعيش أزهى عصور البناء والتقدم.
ينسى ساستنا ان معظم العراقيين يشاهدون فضائيات غير عراقية تقدم صورة واضحة لما يجري، وان مطالعة المطبوعات العربية والعالمية من خلال النت يقدم للناس صورة لما يجري على ارض الواقع.
ان سياسة العماء الإعلامي التي يصر عليها الكثير من ساستنا هذه الأيام، هي التي تحمل الاساءة الى الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار.
جميع التعليقات 1
كاظم الأسدي
نعم لقد أزمتم الوضع السياسي ؟ ألم تكشفوا فساد السياسيين ؟ألم تزيلوا اللثام عن عيون الجماهير وتبصروها حقيقة تلك الشعارات والتفويج الطائفي قبل أن تحقق مرادها في تمزيق وشرذمة الوطن !! ألم تكشفوا عن المخفي عن الكثير مما أريد إخفاءه