نسمع في الأخبار أن تظاهرات أساتذة الجامعة وكبار الموظفين فيها ستستمر حتى تتم معالجة قضية سلم الرواتب والحيف الذي لحقهم جراءها، ومثل ذلك نسمعه في قطاعات وظيفية أخرى. ولأن الحكومة (رئاسات ثلاث وبرلمان ومجلس وزراء وآخرين نعرفهم) عاجزة عن استعادة عشرات المليارات المسروقة من قبل هؤلاء، فقد عمدت إلى الحلول البديلة التي منها تقليص رواتب بعض الموظفين في الدولة لسد العجز الذي تعاني منه الموازنة.
قد يبدو إجراء الحكومة هذا منطقياً لو كان العراق في ظروف طبيعية، ولم تسبق عملية الترشيق هذه أكبر عمليات فساد يشهدها العالم، إذ لم نسمع عن ضياع تريليونات الدولارات بهذا الحجم في أغنى بلدان العالم أو دول عرفت بالفساد، كما أننا لم نسمع عن خصاء حكومي في عدم قدرة القضاء على استرداد القليل منها او ملاحقة المتورطين فيها، بل أنها لم تعلن عن قيامها بزج أحدهم واسترداد المبالغ المسروقة منه. لذا ستكون معالجة الحكومة بالغة الصعوبة، ذلك لأن غالبية كبار المسؤولين في الحكومة الحالية هم المتهمون في ضياع الأموال هذه. ترى كيف ستتمكن من معالجة قضية متشابكة، معقدة لا تملك أي مفتاح فيها؟
ما يهمنا هنا ليست الأموال المسروقة فالموضوع شائك، وله من سيتكلم به، إنما مستقبل الوظيفة العامة ومستقبل الطلاب في الجامعات التي يصر الاساتذة فيها على تظاهراتهم حتى تتحقق مطالبهم. وبين موقف الاساتذة ومستقبل الطلاب نستحضر الحكاية التي كان كثيرا ما يوردها الراحل الكاتب محمود عبد الوهاب: يقول بانه كان طالباً في جامعة عين شمس بالقاهرة، حين رفض الطلاب العرب دخول المحاضرة التي كان يلقيها احد الاساتذة الإيطاليين، احتجاجا على احتلال القوات الايطالية لليبيا، في الظروف المعروفة بعد الحرب العالمية الثانية، ولما يئس الاستاذ من إقناعهم بان القضية مختلفة بين تلقي العلم وبين الموقف من السياسة، قال لهم جملته الشهيرة: (أنكم بذلك تفعلون كمن أراد أن يعاقب زوجته فقطع أ.....).
قد يختلف الموضوع في تعاطي أفكاره وتلقي معانيه، وقد يغضب غير واحد للمثل هذا، لكننا نجد أن معاني الوظيفة في العراق تدنت إلى أدنى مستوياتها، ولا نستغرب من غضب الشارع وعدم قناعته بكل الكابينة الحكومية بدءاً من المسؤولين الثلاثة الكبار في الدولة وليس انتهاء بمجموع اعضاء البرلمان والوزراء ومعهم كبار القضاة حتى نصل إلى المحافظين ورؤساء المجالس وأعضاء الحكومات المحلية وأنهم غير جديرين بإدارة وظائفهم. ولا ننسب القول هذا لنا إنما افصح عنه المتظاهرون في التظاهرات التي تصاعدت وتيرتها قبل أشهر. وقد قال الشارع العراقي بذلك قولته الحق. من الحقيقة هذه نقول بان الوظيفة في العراق فقدت معانيها النبيلة التي جاءت من أجلها، ألا وهي المصلحة العامة. حيث تعرّف معظم الدساتير الوظيفة العامة بقولها إنها "خدمة تناط بالقائمين بها، ويَستهدِفُ موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحةَ العامة". نجد أن كل تشريع قانوني يؤكد على المصلحة العامة. ترى أين المصلحة العامة في ذلك؟
ذات يوم طلبتْ مني جهة ثقافية عربية اختيار وفد ثقافي بصري، لزيارة بلاد الجهة تلك، فاخترت مجموعة من الاصدقاء العاملين في ميادين الثقافة (شعر وموسيقى ومسرح وتشكيل) ولتكملة الوفد فقد كان لزاما علينا أن نلجأ الى الجامعة، ولأني بعيد عن الوسط هناك، فقد استأنست برأي أحد الاصدقاء التدريسيين في كلية (...) باختيار من يجدهم اهلا لذلك، وبصعوبة بالغة نجحنا في تشكيل الوفد، الذي كان بينهم الاستاذ الدكتور الناقد المرحوم علي عباس علوان، رئيس الجامعة آنذاك والاستاذ القاص المعروف محمود عبد الوهاب وأساتذة اجلاء آخرون. لكن الصدف تشاء فيمرض الدكتور علوان وينقص وفدُنا شخصية مهمة، ساعتئذ طلبت من التدريسي الصديق اختيار شخصية بديلة، على ان تكون بحجمه أو أقل منه بقليل. لكنه وبعد بحث وعناء طويلين أجابني بأنْ ليس بين أساتذة الكلية الـ 65 من هو بالوصف الذي أردناه، أو حتى أقل منه. الآن ندرك معاً هول ما نحن فيه!
التظاهرُ حقٌ لكنَّ الوظيفةَ خدمةٌ عامة
[post-views]
نشر في: 31 أكتوبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...