TOP

جريدة المدى > عام > في رواية الكاتب الكردي اريان صابر خضر الداودي.."امرأة تحكي قصة شعب"

في رواية الكاتب الكردي اريان صابر خضر الداودي.."امرأة تحكي قصة شعب"

نشر في: 2 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

سيرة حقيقية لنضال وصبر الأكراد بلا رتوش
 
في أحد صباحات جمعة شارع المتنبي الشهير ببغداد لم أكن أتوقع أني سألتقي بهذا الشاب الذي حضر إلى " قيصرية حنش " المعروفة بازدحامها الشديد من الأدباء والشعراء والفنانين والمتذوقين لهذه السلة المليئة بأصناف

سيرة حقيقية لنضال وصبر الأكراد بلا رتوش

 

في أحد صباحات جمعة شارع المتنبي الشهير ببغداد لم أكن أتوقع أني سألتقي بهذا الشاب الذي حضر إلى " قيصرية حنش " المعروفة بازدحامها الشديد من الأدباء والشعراء والفنانين والمتذوقين لهذه السلة المليئة بأصناف الثقافات والفنون ، اريان صابر خضر الداودي كاتب كردي في العشرينات من عمره جاء من مدينته طوز خورماتو وقد تأبط قصته القصيرة "امرأة تحكي قصة شعب" الصادرة حديثا عن دار (أمل) السورية وبواقع 53 صفحة من القطع المتوسط ليقدمها هدية إلى بعض الكتاب والشعراء. حظيت بنسخة منها فلم أتركه يذهب ، جلست معه حاورته كان يمتلك ثقافة عالية مكنته من دخول عالم القصة ليتحفنا بهذه السيرة السردية التي تحكي عن نضال شعبنا الكردي ضد الحكم الشمولي الذي عانى منه العراق عقودا طويلة .

 

وقبل الدخول إلى أحداث هذه القصة المؤلمة قام الداودي بإهدائها إلى : "أرواح ضحايا الأنفال الذين سحقتهم أسواط الظلم التي لا ترحم" ، فراح يتقصى أخبار هذا الظلم بعد أن لمس حجم عدوانيته ووحشيته ، وهو في الثامنة من عمره أخذه جلاوزة البعث وداروا به مدينته بسبب مشاركته بإشعال النار احتفالا برأس السنة الكردية وقبل أن يطلقوا سراحه أخبروه:
" لا تقترب مرة أخرى من هذه العجلات التي يقومون بإحراقها ، إذا اقتربت مجددا لن نسمح لكَ بالرجوع إلى المنزل ، قالوا لي انصرف الآن ورجعت للبيت والحمد لله لم يشك أحد بأمري ، لكنني أصبحت أعرف نوايا نظام البعث ضد الشعب الكردي " .
هذه النوايا قادته كي يفتش عمن عاش تحت رحمتها وذاق من خبثها فتعرف على أحد الأصدقاء الذي أخبره : " بأن إحدى النساء حكت له عندما أخذوا أعدادا كثيرة منهم وكذلك الأطفال والرجال والشيوخ من القرى الكردية في منطقة الكرميان إلى ( نكرة السلمان ) والذي يعتبر واحدا من أكبر السجون العراقية في محافظة المثنى الواقعة جنوبي العراق التي كان فيها أكثر من ألف سجين كردي ، كانت هناك كلاب سوداء تأكل لحم البشر ، أي تأكل لحم الأكراد وتمزق رفات السجناء أمام أنظار ذويهم" ، "بعد أن سمعت هذه القصة قررت التوكل على الله وان أقوم بتأليف كتاب حتى لو كان كتابا صغيرا وقمت أبحث عن شخص دخل إلى سجن (نكرة السلمان ) وخرج منه لكي أتعمق أكثر بالموضوع ، وبعد أيام وأنا أبحث عن شخص ما وبمساعدة بعض أصدقائي وجدت امرأة عجوزا والتقيت بها وبعون الله قمت بتأليف هذا الكتاب المتواضع الذي بين أيديكم" . هكذا اتضحت لنا فكرة القصة وصورتها التي ابتدأ الداودي حكايتها في مقدمته لها لينتقل إلى تلك المرأة العجوز الحاجة فانوس عزيز إبراهيم ( أم أحمد ) والتي يروي لنا كيف وصل إليها في سردية سهلة بعيدة عن التكلف .
القصة تبدأ من هنا والداودي استعان بكل السمات الفنية للقصة القصيرة مكتفيا بتصوير حالة هذه المرأة العجوز الفاقدة لبصرها نتيجة نواحها لسنين عديدة على من فقدتهم ، هو يحقق هنا الوحدات الثلاث لكتابة القصة القصيرة الزمان والمكان والموضوع مسلطا بالوقت نفسه الضوء على حادثة واحدة أو شخصية واحدة أو موقفا واحدا ، ويكون التركيز فيها ضروريا على الموضوع المعالج وطريقة السرد فيه وتركيب المفردة بحيث لا يسمح المجال للحشو والإطالة حيث يقول عن لسانها :
" كان عمري آنذاك لا يتجاوز السادسة والستين ، أتذكر ذلك اليوم الذي دخل علينا الجيش للقرية ، كنت أعيش في قرية ( زندانة ) الواقعة في منطقة الداودة ، كنت متزوجة ، رزقني الله بأربعة أولاد وابنتين ، في ذلك اليوم كان الجو مشمسا ، كنا في الشهر الرابع ، الربيع كان جميلا وكنا على أمل الحصاد ، لا أعلم تاريخ الحدث الذي أتكلم عنه ، لكنه كان عام 1988 ، لا أتذكر اليوم بالتحديد لأنني لا أجيد القراءة والكتابة ما تعلمته فقط بعض الآيات من القرآن الكريم للصلاة " ، وبعد أن تسرد عن لسانها تفاصيل أخرى عن بيتها وزوجها وأولادها حتى مقدم ذلك الجيش بعدته وعتاده ليخبرهم بمغادرة قريتهم إلى مساكن جديدة أعدت لهم يجب أن ينتقلوا إليها ، ومع شعورهم بالحزن لأنهم سوف يغادرون هذه القرية الوادعة فرحوا بعيشهم الجديد :
"جمعوا جميع ما نملك في إحدى السيارات التابعة للجيش العراقي ، كانت سيارة كبيرة لا أعلم اسمها ، وأخذوا جميع ما نملك من المواشي وأغراض البيت وحملوها بالسيارة الحكومية " ، هذا الرحيل القسري لهذه العوائل استقر بهم الحال بعد عناء في مكان غريب لم يألفوه يدعى (نكرة السلمان ) وبعد أن عزلوا النساء عن الرجال وكبار السن عن الشابات والشباب وتجريد النساء والبنات من الذهب الذي كانوا يحملونه فوق رقابهن وجيدهن ، الداودي بهذه السردية التي أوصلنا إليها اختصر علينا الطريق لنعلم بعدها كم عانت أم أحمد ومن معها في هذا السجن الرهيب ، لا راحة في النوم ولا في الطعام الذي كان يقدمه العسكر لهم خبزا يابسا أما هم :
" في كل ليلة أو ليلتين كان هناك بعض الجنود يبدو أنهم كانوا ضباطا يرفعون أصواتهم عند العاشرة مساء وأحيانا عند الحادية عشرة يصرخون بأعلى أصواتهم ويقولون هل حضرتم العشاء للمتمردين ؟ يقصد بالعشاء قطعتين من الصمون !
كان يصرخ ويسمعه كل من كان هناك ، هؤلاء متمردون ، هؤلاء لا يستحقون العيش ، إنهم خونة ، الكرد خلقوا لكي يموتوا ، يا أيها المتمردون ."
يتصاعد ألم المرأة العجوز وهي تقلب ذاكرتها المتعبة تتساءل مع نفسها عن ظروف زوجها وأولادها وبناتها ، أين هم الآن يا ترى ؟ وكيف هو مصيرهم وما هذه الكلاب السوداء الضالة تنتظر فريستها :
" نرجع للكلاب التي كانت خارج الجدران المكان الذي كنا نسكنه ، كانت الكلاب لا تأكل إلا لحم البشر ، نعم لحم البشر !! " ، وبينما مؤلفنا الداودي يستعرض كل هذه الآلام على لسان أم أحمد يأخذنا إلى "الحجّاج" الذي يظهر ثانية بعد مرور أكثر من 1300 سنة على وفاته ، هو مسؤول هذا السجن الرهيب ، يشبهه في كل شيء ، أذاق سجناءه الويل والثبور وعندما مات لم تكن ميتته لتشبه أية ميتة أخرى فقد انتفخت بطنه حتى كادت أن تنفجر وعين على الفور حجّاج آخر ، هكذا تمضي السنوات بأم احمد تنتقل هي ومن معها من جلاد لجلاد .
الكاتب الداودي وهو يجلس أمام أم أحمد ينهل منها ما سيوثقه للأجيال القادمة يذكرني بالكاتب الروسي العظيم أنطوان تيشخوف الذي كان يحرص في كتابته للقصة على الاغتراف من الحياة بوصفها المصدر الأول في نظره للتجربة الإنسانية الخصبة (1) كانت قصصه متنوعة الموضوعات واتسمت بالسلبية تجاه الحياة الاجتماعية والسياسية التي تحكم أقدار روسيا في أواخر القرن التاسع عشر ، وما كان يهمه من الأحداث العادية تصويره الانحطاط الروحي في أعماق النفس الإنسانية (2) ، حكاية الألم والظلم والموت لم تنته، أم أحمد لا زالت تسرد علينا ذلك :
" هكذا كانت الأيام والليالي في ( نكرة السلمان ) إلى أن حان اليوم الذي قرأ أحد الجنود بعض الأسماء وكان اسمي من ضمن الأسماء التي قرأها الجندي ، أخذونا إلى غرفة كبير الضباط ، هناك التقيت بزوجي ، هل أنا احلم ؟ إنه زوجي !! كان يبدو من ملامحه بأن التعب كسر قوته ، ليس هو ذلك الرجل الذي كان يزرع ويحصد ويقوم بتربية الأبناء في القرية " ، بعد هذا اللقاء يقوم الجند بنقل كبار السن إلى جمجمال ليطلقوا سراحهم من هناك ، كانوا كالعصفور الذي يخرج بجناح مكسور ورجل مبتورة من قفص حديدي ذي باب صغير مقفول بعشرة أقفال وسلاسل حديدية كما يقول الكاتب الذي يعود ليروي عن لسان المرأة العجوز اشتياقها لزيارة قريتها التي قالت عنها والحزن يأكلها :
" عندما شاهدت حال القرية انفجرت بالبكاء ، لا بيوت أمامي!! "
هذه الجملة القصيرة تلخص حالة الذهول والمفاجأة التي وقعت على رأس أم أحمد وهي تشاهد ما وصلت إليه قريتها من دمار على يد أتباع وأعوان الحكم الدكتاتوري الغاشم :
" في كل ليلة كنت أنهار بالبكاء ، اسأل الله أن لا يجعل أحدا يفتقد عزيزا ."
فقدت المرأة العجوز نظرها بعد ذلك وعندما سمعت بانهيار ذلك النظام عام 2003 فرحت أشد الفرح وكأنها : " ولدت من جديد ، ولدت من رحم المآسي والألم ، مبتسمة الوجه وضريرة العين " ، وبعد عدة سنوات من نهاية حكم البعث يتوفى زوجها محمد ناصر خورشيد فتعيش زوجته العجوز عند حفيدها في القرية التي تقول عنها :
"عندما أكون عند حفيدي في القرية أعشق تلك الغرفة الصغيرة التي أنام فيها ، وعندما أخلد إلى النوم أكون لوحدي أتذكر أولادي وأتذكر المآسي وأتذكر كلمة الأنفال ، وكلما تذكرت كلمة الأنفال كأنه لغم في حقل لا أول له ولا آخر " .
في نهاية القصة وضع لها مؤلفها خاتمة لها يقول عنها أنها حكاية من قصص الماضي القريب كتبت فصولها بمداد من الدماء ، حكاية روت عجوز صورها الحية كشخوص تتحرك فوق خشبة المسرح ، حكاية من الزمن المر ، حكاية صعقت لها مندهشا ، أهكذا نفر من الذئاب تطاردنا وكأننا في عالم تسوده شريعة الغاب لا شريعة الإنسان المحب للسلام والحرية ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. اريان صابر

    شكرا لكم

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram