TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قليل من الفرح.. كثير من الألم

قليل من الفرح.. كثير من الألم

نشر في: 7 نوفمبر, 2015: 09:01 م

لي أقرباء سكنوا أطراف النخل، ومنذ أن جيء بالأرض والماء هناك، كانت بيوتهم، لهم على نهر عريض -إن لم يكن الأعرض بين النهران- بستان واسع، وعبر متوالية الحياة والموت آلت إليهم أراضٍ زراعية كثيرة، هي أوقاف سنية وتعبات تعهدوا إعمارها ورعايتها، حراثة وزراعة وسقياً لعقود وعقود، فكانوا وأبناؤهم طوال القرن الماضي من أسعد الناس واوفرهم تمراً وفاكهة وخضاراً وأبقاراً ودجاجاً. لكن الحال لم تستمر على منوالها، فقد دارت رحى الحرب عليهم، وسيق العديد من أبنائهم جنودا فيها، فقتل من قتل فيها، ولما احتفرَ الحصارُ بطون الناس مات الكثير من آبائهم خجلا وكمدا وجوعاً. ترملت النساء وتيتم الاطفال وبارت الأرض ونفقت او بيعت الحيوانات. هكذا، وفي بحر قصير من السنوات راح كل شيء. لكن الارض ظلت معهودة، معقودة بأيدي من ظل منهم، تمسكوا بها كآخر خشبة في سفينة آمالهم التي تحطمت.
أقربائي، أولئك، غالباً من يعنُّ لي زيارة أحدهم، حنين من نوع خاص يشدني إلى الأمكنة تلك، أنا المأخوذ بتفاصيل الأرض والنخل والانهار والطرق الترابية الضيقة. الشاعر، الذي يأنس بحكايات المواسم والجني وتوقيتات صعود ونزول المدّ، بالسدود الطينية التي كان يأتمنها أهلنا على مياههم، بحركة الأقمار وهي تشتعل بدوراً في النخل ثم وهي وتنطفئ أهلة في ذنائب الأنهار، أو وهي تحدد مواعيد زراعة الخيار والطماطم والباذنجان وتقليم العنب وتسميد البرتقال. أجدني أسير الاشياء هذه، لا أنفك ولعاً وولهاً فيها، لهذه ولتلك أقصد أبا حافظ، أحد أقربائي أولئك، الذي فقد أحد أبنائه في حادث عمل، ولما تجرّع مرارة نسيانه، توفيت عنه زوجته، فهو إلى اليوم غير عاطل عن تذكرها. لكنني أكون أكثر متعة وأُنساً معه ساعة يأخذ بحديثه عن "ماضي الايام" غير الآتية. أيام كانت أصوات مكائن السقي وحيدة تتصادى مع أصوات الطيور وكركرة السواقي وهي تمتلأ بماء المدّ العالي. وهو يرتفع مستهلاً أو منتصفا الأشهر القمرية، لا يمكنني وصف السعادة عند فلاح، أي فلاح في طول أبي الخصيب وعرضها كالتي تحضره ساعة ترتفع مناسيب مياه المد فتدخل الانهار وتجتاح السواقي. هنالك رائحة، وهناك الوان، وهناك وشوشات لا يمكنني وصفها والله، تعجز لغتي وتتراجع أحاسيسي. أبو حافظ هو الوحيد القادر على الإتيان بذلك كله، فهو يُحسن وصفها والحديث عنها. بل هو الأقدر مني على ذلك.
أمس، وفي طريق البهادرية، عند دكان احد البقالين، وجدت أبا حافظ، ترك دراجته اللمبرتا (الوزوازة) عند حائط المدرسة وجلس يطيل النظر بالمارة، بحركة السوق وهي تزدحم ساعة وتنفرج أخرى، تبضع شيئاً من الطماطم والخيار، قليل من الفاكهة أيضاً، وفي جوف كيس أسود من النايلون رأيت باقات من خضار (كرفس ونعناع وكراث وسواها) وكمن يعثر على خاتمه الذهب وقد أضاعه في تل كبير من التبن أخذت بيده، او أخذني من يدي، ورحنا ندير حديثاً لن يكتمل شجناً ووجعاً ومرارات. كان أبو حافظ يشكو من آلام في كُليتيه، يقول بأن جسمه بات منتجاً للحصى مثلما تنتج برية الزبير والدّريهمية الرمل والحصى فتبني الناس منازلها. وكمن لم يفرح بشيء في حياته، كمن لم يفتح عينه إلا على الخراب والموت والفقدان راح يحدّثني عن (جيرانه) الجدد -حتى وقت قريب لم أعرف أنّ أحداً سكن قربهم- فقلت له عن أي جيران تحدثني، منذ متى كنتم تجاورون أحداً، أنتم مفردون عن خلائق الله في بساتينكم وأرضكم ومنازلكم هناك. فقال مفجوعا: لا ،لقد بيعت البساتين التي حوالي بيوتنا، وبالاتفاق مع موظفين غير مؤتمنين، سرق لصوص النخل والانهار سندات التمليك، سجلوها بأسمائهم، باعوها واشتراها من لا يملك لمن لا يستحي ويخجل ويخاف، صرنا الغرباء في بساتيننا، سدَّ (المالكون) الجدد علينا ماء النهر، أقاموا جسراً عليه، ثم أنه صار يضيق ويضيق بفعل ما يلقى فيها من رمل وحصى وطابوق واسمنت. صرنا نخشى ونتصادم مع بعضهم فاشترينا بنادق ورصاصا كثيراَ، أصبحنا نحترز منم .جيراننا يعيبون علينا أسماءنا وبيوتنا يحقّرون تأريخنا، يقولون بأننا حساويّة، نمتهن زراعة النخل والخضار والفاكهة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

 علي حسين كان العراقي عصمت كتاني وهو يقف وسط قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يشعرك بأنك ترى شيئا من تاريخ وخصائص العراق.. كان رجل الآفاق في الدبلوماسية وفي السياسة، حارساً لمصالح البلاد، وحين...
علي حسين

قناطر: بغداد؛ اشراقةُ كلِّ دجلةٍ وشمس

طالب عبد العزيز ما الذي نريده في بغداد؟ وما الذي نكرهه فيها؟ نحن القادمين اليها من الجنوب، لا نشبه أهلها إنما نشبه العرب المغرمين بها، لأنَّ بغداد لا تُكره، إذْ كلُّ ما فيها جميل...
طالب عبد العزيز

صوت العراق الخافت… أزمة دبلوماسية أم أزمة دولة؟

حسن الجنابي حصل انحسار وضعف في مؤسسات الدولة العراقية منذ التسعينات. وانكمشت مكانة العراق الدولية وتراجعت قدراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وانتهى الأمر بالاحتلال العسكري. اندفعت دول الإقليم لملء الفراغ في كواليس السياسة الدولية في...
حسن الجنابي

إدارة الاقتصاد العراقي: الحاجة الملحة لحكومة اقتصادية متخصصة

د. سهام يوسف بعد مصادقة المحكمة الأتحادية على نتائج الانتخابات الأخيرة، يقف العراق على أعتاب تشكيل حكومة جديدة. هذه الحكومة ستكون اختبارًا حقيقيًا لإصلاح الاقتصاد العراقي المتعثر، حيث تتوقف عليه قدرة البلاد على مواجهة...
سهام يوسف علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram