3-5
في عمود الأسبوع الماضي ذكرت كيف أن المصري أحمد حسن الزيات الذي ترجم "آلام الشاب فرتر" عن اللغة الفرنسية، كان أكثر حرصاً على النص الأصلي من مؤلفه، المفارقة هي أن حرص الزيات المبالغ به هذا، هو ما جعله يؤول بحرية، يحذف ويضيف على هواه، صحيح أن روح عصر "العاصفة والاندفاع"، العصر الأدبي الذي عاش فيه غوتة ونشر فيه روايته الخالدة هذه، تحضر في قوة لغة أحمد حسن الزيات وتدفقها، بكل ما تحويه من عنفوان وشاعرية، وطاقة متفجرة، سواء في وصفها المشاعر المتمردة، الفائرة في نفس الشاب فرتر، أو في وصفها المناظر الطبيعية، إلا أن مبالغته أو ربما حبه لنص غوتة، الذي وجد فيه بالتأكيد معبراً عن رومانسية تتلاءم مع رومانسية جيل الزيات الأدبي في مصر، حولت غوتة، الألماني الهوية، الإنساني النزعة، إلى شاعر عربي قريب من المصري أحمد شوقي، الذي ليس مصادفة أُطلق عليه "أمير الشعراء" أيضاً على غرار اللقب الذي مُنح لغوتة!
ذلك ما نجده في وضعه لقصائد عمودية، موزونة مقفاة على لسان فرتر، قصائد ليست موجودة في الكتاب أصلاً، لا مضموناً ولا شكلاً:
وكان حالهما في الحكم واحدة
لو احتكما من الدنيا إلى حكم
وتأخذه نشوة صياغة هذا البيت الشعري، لدرجة أنه يجعل ألبرت (زوج شارلوته) يطرب لهذا البيت الشعري، فيضع على لسانه الجملة التالي: لقد رأيت رأياً بديعاً (ص109)! ليست تلك هي المرة الوحيدة التي يقوِّل أحمد حسن الزيات أبطال غوتة كلاماً منمقاً وأمثالاً عربية تقترب مفاهيمها ودلالتها من عقلية المجتمع العربي أكثر، لا علاقة لها بالمجتمع الألماني:
"آه، ليتني أستطيع أن اشرح كل هذا ! وليت يدي تقدر على ابراز ما أثر في نفسي من هذه المناظر والمظاهر على القرطاس ..." (ص 32)، "وهم ما عدا ذلك على شيء من الشهامة والكرامة" (ص 37)، ومن أمثلة الجمل التزويقية الأخرى التي يضيفها، هي: "من غفلات العيش ولحظات الأنس؛ تلك الأيام التي لا تشرق في سماء العمر إلا مرة! (ص121)"، أو كما جاء في رسالة التهنئة التي بعثها فرتر لألبرت بمناسبة زواجه من شارلوتة، والتي هنأه بها بجملة بسيطة: "بالرفاء والبنين يا حبيبيّ العزيزين ! بارك الله عليكما ومتعكما بما حرمني اياه من الأيام السعيدة والعيش الرغيد !"، والصحيح أن فرتر لم يقل إلا الجزء الثاني من الجملة "بارك الله عليكما ومتعكما بما حرمني اياه من الايام السعيدة والعيش الرغيد !"، "تلك الأيام التي مرت كحلم الوسنان وجلسة المختلس" (ص157) ، أو يغير من الأسماء، الفتى الذي يلتقيه فرتر في القرية الذي اسمه الأصلي "فاو" يصبح "نون" و"نظرية الفنون الجميلة لسولتزير" تصبح "لمولزر" (39)، أو "نحن معشر الناس"، تتحول إلى "نحن معشر الرجال"، في مواقع أخرى، يحذف بعض الأيام (غير معلوم إذا سقطت سهواً في الطباعة، أو جاءت هكذا في ترجمتها الفرنسية)، 22 نوفمبر مثلاً، أو لأسباب دينية يغير بالترجمة، لا يقول "ابن الله"، التي هي كنية طبيعية للمسيح عند المسيحي والمؤمن غوتة، كما هي الحال في الديانة المسيحية عموماً، بل يقول "سيدنا المسيح".
* من مقدمة كتاب "آلام فرتر" للألماني لفولغانغ يوهان غوتة، الذي صدر قبل أيام عن دار النشر المصرية صفصافة بترجمة الروائي العراقي نجم والي، والتي هي أول ترجمة عربية للكتاب عن لغته الأصلية الألمانية.
يتبع
كل هذه الترجمات.. كل هذه الدهشة في النهاية: لا مقدس يعلو على الحب
[post-views]
نشر في: 10 نوفمبر, 2015: 09:01 م