TOP

جريدة المدى > عام > وجهة نظر..موت الشاعر

وجهة نظر..موت الشاعر

نشر في: 15 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

 ليس سهلاً، في اجواء مشحونة بالكراهة والاستياء، ان تقول صواباً في صالح المرفوض أصلاً. ولكن لا يخلو انسان من حسنة حتى اذا اساء وافحش. هنالك دائماً موضعٌ يستوجب الرحمة لكن المؤسف ان شناعة الشر تمكث بين الناس طويلاً .. هذا المدخل ضروري لكي أتحدث عن

 ليس سهلاً، في اجواء مشحونة بالكراهة والاستياء، ان تقول صواباً في صالح المرفوض أصلاً. ولكن لا يخلو انسان من حسنة حتى اذا اساء وافحش. هنالك دائماً موضعٌ يستوجب الرحمة لكن المؤسف ان شناعة الشر تمكث بين الناس طويلاً .. هذا المدخل ضروري لكي أتحدث عن عبد الرزاق عبد الواحد وقد ارتحل وارتحلت معه سيئاته وحسناته وهو الآن بعيدٌ عن محبيه وعن كارهيه. من يحبونه لا يحبونه، هم يحبون ما ينفعهم فيه ومن يكرهونه يكرهون ما ينفع اعداءهم فيه وما يضرهم ويؤذيهم. هو في الحقيقة ضحية الاثنين. 

لنبدأ في شعره مدخلاً لما تلا ذلك. فبالنسبة للدرس الادبي، نراه خارج المرحلة، بقية نابضة من زمن انتهى. لا لأن شعره عمودي أو قريض أو نظم، ولكن الحقيقة الاخرى والاساس هو أنه شعرٌ لا فكر وراءه ولا فن الا الفن القديم الموروث. هو شعر خطابي ذو لغة وسبك هما من صفات اساطين الشعر العربي القديم ولا جديد بعد ذلك. لاقيمة فنية فيه ولكن كان له حضور اجتماعي صعب نكرانه. فـعبد الرزاق عبد الواحد شاعر متمكن جداً وبامتياز من التعبير لو تكامل فنياً لكان شاعراً مهماً من شعراء العصر.
لماذا التجأ عبد الرزاق الى العمود الشعري وقد كان شاعر تفعيلة، مثل مجايليه، السياب والبياتي وكان ماركسياً مثلهما؟ السبب الأول، كما أرى انه بعد اعتقاله في 14 رمضان واطلاق سراحه، تقرب من الدولة لكي ينجو أو لكي يكمل نجاته ثم لكي ينال بدلا من أن يظل معوزاً ومرصوداً بلا معنى. وهو في هذا ليس وحده، مفكرون وقادة احزاب فعلوا ذلك ... واستراحوا !
ولأن المال والمكرمات صحبت الولاء واعقبت المدائح، فقد وجد نفسه شاعر الاحتفالات، حاضراً في الشاشات على عموم البلاد. وهذا ما كان يحتاج اليه. مناوءة الجواهري للدولة حفزتهم لأن يكون هو بديلاً .. تقرّب أكثر!
وبعد ان كان الحضور الشعري والثقافي لسواه، نال تلك الايام سبْقاً وتفوقاً افتقدهما مع شعراء جيله الذين احتفى بهم النقد واهتمت بهم الدراسات والاوساط الثقافية بينما ظل عبد الواحد بعيداً لا حضور له.
ما يستوجب التنويه، ان عبد الرزاق في ديوانه الاول "طيبة" (كتبه وهو مدرس في مندلي ..) كان شاعرا واضح الشخصية ولواقعيته مذاقها الخاص. حتى لأرى ان قصيدة عبد الوهاب البياتي "انا عاملٌ ادعى سعيد/ ابواي ماتا في طريقهما الى قبر الحسين.." تحمل روحا "طيبة" لعبد الرزاق عبد الواحد.
المؤسف بالنسبة لنا، المربح مادياً بالنسبة له، انه لم يتقدم مثل زميليه. السبب انه كان اقل منهما جهداً في متابعة الجديد وبقي على ثقافته المحدودة في الادب العربي القديم واللغة مما درسه في دار المعلمين العالية. لهذا ظل عبد الرزاق على هامش الثقافة الادبية الحديثة. لكنه من الناحية الاخرى، شاعرٌ متمكن يتمتع بمقدرة نظمية ممتازة وبحساسية عالية ورهافة وبلاغة جملة واقتدار لغوي كبير . هو شاعر لا يستهان به. ثم ان قدرات مثل هذه بدأت تتلاشى وان كنت ارصد بضعة مقتدرين، اباركهم يطلّون علينا بين حين وحين.
رضاه او طموحه الشعري قريبا من الدولة وبين الناس، ذلك ما ابعده عما نرضاه نحن. لكن ذلك حقه كشاعر يريد ان يكون. شخصياً، كان انساناً ودوداً مسالماً لا يثقل على أحد ولا أظنه أساء.
في أدبنا الحديث، القدرة على النظم وحدها لا تكفي. افتقاده للفكر الادبي الجديد ولأية فلسفة وابتعاده عن الحراك الثقافي الحديث ابقته في موقع قريب الى الشارع والعام بعيدا عن الخاص والمنتدى الحديث والثقافة. كان يأخذ الأمور مأخذا سهلاً فرِحاً بما يرضيه وربما غير عابئ بكل النقد والثقافة الجديدة.
الغريب أو مما يثير العجب، ان عبد الرزاق كان على مستوى مقبول، بل محترم، في ديوانه "خيمة على مشارف الاربعين". وفي هذا الديوان قصائد محترمة مثل "هارب من متحف الاثار" و قصائد أخرى سواها. صحيح كانت في تلك القصيدة فضفضة وترهل وكانت بحاجة الى تركيز لكنها قصيدة جيدة وموضوعها يستحق وقفة احترام . وهذا القول ينطبق على قصائد اخرى في "خيمة على مشارف الاربعين" التي جاءت بعد عقدين من الزمن تقريباً من صدور "طيبة". مجموعته هذه هي الفضلى وهي أكثر تقدماً في طريق الحداثة من بقية شعره. يبدو انها خاتمة الوصال مع الشعر الحديث لتبدأ الاعمدة...
ولكي نكشف بعضاً من شخصية عبد الرزاق الخفية، ربما، اذكر مسألة قد تكون باباً للتساؤل:
يوماً، التقيت بأبي خالد في الوزارة، وكانت بيننا مودة ولطف ويأتمنني لحد ما أو لا يخشاني. غمزته عن مدحيته الاخيرة وقلت له: المهم، ما هي الخِلعة؟ ضحك ضحكته القريبة للنفس وقال لي: تعال ياسين، وادناني اليه مبتسماً وشاورني (أي همس بأذني) : اسمع، أنا خالي كان صائغاً للملك وأنا ..." وضحك مودِّعاً تاركاً لي بقية الكلام!
من درسه الماركسي عرف ما وراء اللعبة فسخر منها وراح يعيش ويزهو بنوع من العبثية "المُجدية" لتتوالى بعد ذلك أمورٌ، هو أصلاً لا قدرة له بعد للتراجع عنها وانصار القديم يولونه الاحترام بينما الجديد في البلاد يرفضه. مسألة اخرى تكشف موقع او حال الرجل وضعفه او محاولته لتأكيد ولائه. مرة في حفلة اقترب من المغني وهمس له بأن ينشد اغنية من تلك التي عن القائد. فعل هذا وهو يُشعِرُ حزبيين متقدمين قريبين منه بفعله. الرجل يحاول تأكيد الولاء وبنوع من الزلفى. عمل مثل هذا لا يفعله رجل او شاعر ثابت المكانة في الحزب ومالكا كبرياءه وثقته بنفسه. فمثل هذا يستحيل ان يفعله الاستاذ سامي مهدي او الاستاذ حميد سعيد. هما لايحتاجان لمثل هذا لتأكيد ولائهما او مكانتهما كما ان نوع الشخصية القوية يرفض ذلك. احترام النفس كان واضحا على الاثنين وخلاف ذلك كان واضحاً على راحلنا.. للاسف، كان شاعرا تقليدياً قوي السبك والعبارة ولكنه شخصياً كان هشاً ، بسبب ظروفه القديمة – من اقلية تسترضي لتأمن وتعيش– والظروف الجديدة التي تريد تأكيد ولاء وصدق حماسة.
في الاخير أقول: علينا ان نرحم الناس، نرحم ضعفهم مثلما نرحم شجاعتهم. الانسان ليس دائما ملك نفسه. والناس لا زهّاد ولا دراويش ..
لم يسلم انسان من حرج وعموم الناس اوجعتهم ظروف صعبة ومهدِّدة وحاروا كيف يعيشون وكيف يسلمون. كما ان الرغبة في النيل كامنة في اعماق الجميع، وفي جميع الاحزاب وجميع الظروف. لا أظن احداً وجد طريقا نظيفاً يرضي فيه الدولة ويأمنها ويرضي قناعاته المضادة لها، ولم يسلكه. لو وجد الانسان طريقا آمناً مثل هذا لما فاته ولما تاه.
اذكروا بالخير موتاكم! دفع عبد الرزاق ثمناً أكبر كثيراً مما كسب. ولا شاعر يربح في حياةٍ "ما لايرضاه" هو السيد فيها...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. خالد السلطاني

    قرأت بامعان ما كتبت عن موت شاعر . لاني من اؤلئك الذين سميتهم كارهيه . وددت ان اصغي الى ما تقوله وتصبو اليه، وانت الرجل المحترم الذي اكن احتراما خاصا له. كل ما قلته في القسم الاول من المقالة اراه صحيحاً، وانا اؤيدك، وانا معك. فالرجل في الاخير مات وعلينا

  2. غازي سلمان

    إن ما فعلوه محترفوا الفن - قوالون وطبالون ومنشدون ورسامون ومصفقون - وهم يمجدون قائدهم الضرورة وحروبه وجرائمه بحق ابناء شعبنا لايعدو الا كونهم كانوا يشحذون سيف الجلاد الذي امعن في الشعب قتلا .. وعبدالرزاق عبد الواحد كان واحدا منهم

  3. خالد السلطاني

    قرأت بامعان ما كتبت عن موت شاعر . لاني من اؤلئك الذين سميتهم كارهيه . وددت ان اصغي الى ما تقوله وتصبو اليه، وانت الرجل المحترم الذي اكن احتراما خاصا له. كل ما قلته في القسم الاول من المقالة اراه صحيحاً، وانا اؤيدك، وانا معك. فالرجل في الاخير مات وعلينا

  4. غازي سلمان

    إن ما فعلوه محترفوا الفن - قوالون وطبالون ومنشدون ورسامون ومصفقون - وهم يمجدون قائدهم الضرورة وحروبه وجرائمه بحق ابناء شعبنا لايعدو الا كونهم كانوا يشحذون سيف الجلاد الذي امعن في الشعب قتلا .. وعبدالرزاق عبد الواحد كان واحدا منهم

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram