يرى أن بعض الشجاعة الفكرية والإقدام كانا ينقصان المثقف العراقي على الدوام
أنـهى دراسته الجامعية سنة 1977 وكان قد اصدر قبلها مجموعته الشعرية (الحجر الصقيلي) ، وكان له ان يلج المشهد الثقافي بتمكن وهو المشهد الذي كان يتزاحم فيه كبار الش
يرى أن بعض الشجاعة الفكرية والإقدام كانا ينقصان المثقف العراقي على الدوام
أنـهى دراسته الجامعية سنة 1977 وكان قد اصدر قبلها مجموعته الشعرية (الحجر الصقيلي) ، وكان له ان يلج المشهد الثقافي بتمكن وهو المشهد الذي كان يتزاحم فيه كبار الشعراء ، واستطاع ان يعلن عن نفسه كواحد من جيل السبعينات ، الجيل الذي حاول ان يتحرر من هيمنة الستينيين الطاغية.تخرّج من المدرسة العليا للفنون البصرية في جنيف، سويسرا 1988-1992. وكـرّس السنوات 1985-1999 لدراسة معمـَّقة وأكاديمية لعلم الاجتماع، خاصة علم الاجتماع الفني . وتعمق رويداً رويداً في الفن الإسلامي حاصلا على درجة الماجستير من كلية العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة لوزان/ سويسرا بأطروحة "الدلالات الاجتماعية لتوقيعات الفنانين في الفن الإسلامي".
اصدر المجاميع الشعرية : أصابع الحجر- بغداد 1976، نص النصوص الثلاثة- بيروت- دار العودة 1982، بلاغة: نص وعشرون تخطيطاً- دار الفارزة، جنيف 1988، ميتافيزيك- دار الفارزة، جنيف 1996، كيف- دار المدى ، بيروت 1997، الحجر الصقيلي- دار الآن، بيروت 2001.
وكُتُب باللغة العربية: منها الفن الإسلامي والمسيحية العربية ، العمارة الذكورية ، فن العمارة والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي ، بحث في الواقعية، يوسف الشريف (1958-1987)، مجلد من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، قطر 2002. كما أّلّف في مجال التراث والتحقيق ، والحضارة الاسلامية. وترجم العديد من الكتب الى العربية.
• بعد أربعة عقود من الابداع والتجارب الحياتية الثرّة.. ما الذي ستقول ان التفتَّ الى الوراء؟
- من الصعب الالتفات إلى الوراء إلا ببعض الغضب، إذا استعرتُ عنوان مسرحية (انظر للوراء بغضب) للبريطانيّ جون أوزبرون 1956. بغضب وليس بندم. لا مكان للندم عندما تتقدم حياتك بالشكل الذي مضت فيه. كان بالإمكان أن تتخذ هذه الحياة نمطاً مختلفاً تماماً لو أني لم أغادر البلاد لأسباب معروفة للجميع. أحياناً أفكّر أني قد فقدتُ بعض هواجسي العراقية التي ظننتُ أنها موصولة بجذور الروح. لعل هذا أمر مفيد لأنه نقديّ، ولأنه طالع من مسافة ما بين المرء وموضوعه، مسافة ضرورية للفحص والتأمل والتحليل، غير المتاحة دائماً عند التشبُّع الكامل بالمكان، باشتراطاته ومعاييره وأخلاقياته وبما يحسبه الأولويات بالمطلق. أستطيع القول بالغضب نفسه إن العراق الراهن لم يمنحنى للأسف إلا الخيبة. وبمقدار انشدادي إليه ورغبتي بالعودة إلى أحضانه فقد جوبهت بالصدّ المعلن من طرف الدولة وعدم الرغبة المُضْمرة من طرف بعض المثقفين.
لو التفتُ إلى الوراء لفكرتُ أن بعض الشجاعة الفكرية والإقدام كانا ينقصان المثقف العراقي على الدوام، لذا استغرب اليوم، بعد هذا الوقت كله، أن الشجاعة الأدبية والأخلاقية والإنسانية لأصدقاءٍ أعزّة مثقفين كرام تجاوزوا الخمسين من أعمارهم مازالت منقوصة بسبب ذلك الإرث الروحيّ المحليّ، وما زال بعضهم يحسب أن قد يُمنح مجداً أو منفعة مادية أو معنوية من مؤسسات الثقافة والنشر والإعلام والجوائز التي تقتِّل ليل نهار في شعوبنا. إذا لم يأتِ نفع منها أو مجد أو منفعة قبل هذا السنّ، فلن يأتي بعده. كلامهم النبيل أولى من صمتهم الجليل.
قلتُ لنفسي مراراً ، بعد أن التفتُّ إلى الوراء، إن المرء في "عمر معين" لن يخسر شيئاً بإعلان ذاته الحقيقية، فلن يُمْنح مجداً بعد هذا السنّ، ولن يُغطّي أحدٌ عنه مَجْداً مؤثّلاً بعده. لو حدثتْ الواقعتان لحدثتْ أبْكر من ذلك. أكرّر ذلك على مسامعي كل يوم، وأمام منزلي أرى الجارة الجميلة ذات اللسان العسل.
ما يقلقني شخصياً، وبعمق، هو الحضور الخافت للمثقف الحرّ، في لحظات قد تعصف بنا جميعاً دون استثناء. ولذلك سبب في الماضي. نعم هناك بعض الأصوات العربية التي تمثل مثقفاً حراً، لم ترعبه موجة النار الحالية، ولم تثنه زرقة الدولار، ولا احتفالات الدعوات الباذخة، لا رغد الجنات العربية ولا لهيب الجحيم الوجوديّ.
الفئة العظمى من المثقف الراهن، تظن أنها قد فهمت اللعبة أحسن من غيرها، فلا تريد التفريط بأي طرف في هذا الكون بانتظار المناسبة الملائمة، وتساوي بين القاتل والقتيل، أو تسمي قاتل العائلة وتنسى قاتلاً جاراً. مداهنتها أقرب للانسلاخ من الحقيقة الكبيرة الصارخة اليوم، وأفضل منها مداهنات الكائن الساذج البسيط.
عندما أنظر إلى الخلف لا أتمنى أن أكون (المثقف المتقاعد)، وهذا هو المصطلح الذي أرغب به لتقديم تفسير موضوعيّ لبعض ظواهر تراجع بعض المثقفين عن المشهد السياسيّ - الأخلاقي الساخن اليوم في العالم العربيّ.
لنعترف: بعد خمسين عاماً من الاستقلال في العالم العربيّ، جُلّ المتنفّذين والمقرّرين في حقل الثقافة الآن خرجوا من معطف الأحزاب الواحدة والطغاة. لهذا الأمر لو صَدق نتائج ليست باهرة على الفعل الثقافي والأكاديميّ الراهن. إذ دائما ما يُؤخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار شعورياً ولا شعورياً لدى المتعاطين، مع الشأن الثقافيّ الرسميّ والإداريّ والإعلاميّ.
* بين الأمكنة التي غادرتها ، والأمكنة التي تقيم.. انت الذي قلت مرة (ما الذي أبقيت للباصرة)... كيف تجلّت شعراً؟.
- هل أنا أديب مغترب؟ أنا لست مغترباً بالمعنى الخفيف الذي تستخدمه بعض الصحافة العراقية. ما زالت الصحافة العراقية تسمّي الأدباء والفنانين الذين أجْبِروا على الخروج من البلد كرهاً وبالعنف بالأدباء المغتربين و(الأديب المغترب)، وفي ذلك ما يدلّ على أن بعض مستخدمي هذا المصطلح يستخفون أيّما استخفاف بمفهوم (الاغتراب) ويعتبرونه محض انتقال جسديّ لمكان آخر مريح أو غير مريح. البعد الوجوديّ ينقصهم في الإصرار على هذا الاستخدام، وسيظل طالما استخدموه.
ولو سمحتَ لي، لا أستطيع أن أرى أنا بنفسي كيف تجلّت الأمكنة في شعري. وأودّ أن ألقي نظرة بالأحرى، في مقام هذا السؤال، على التعاطي النقديّ العراقيّ مع أزمة الاغتراب والمنفى والفضاء في شعري وشعر غيري. وألاحظ، إذا لم يكن ثمة من إفراط في زعمي، أن بعض الملامح النقدية السائدة حتى اليوم هي تلك التي وقع تثبيتها زمن البعث في النقد الأدبيّ العراقيّ. أليس غريباً أن (أيديولوجية البعث النقدية) هي المسيطرة بشكل واضح على النقد الأدبيّ العراقيّ كلما تعلق الأمر بفترة السبعينات، ذلك أن أصوات هذا الجيل ظهرت في الوقت الذي كان البعث يوطّد حكمه في السياسة والثقافة. لقد وطدّها بالنار والحديد، وأخشى أن هذه الأحكام النقدية تستند إلى نار وحديد مماثلين رمزيين لا يقلان ضراوة. في القطبية الأيديولوجية التي يتمسك بها هذا النقد يقع التخفيف إلى أبعد الحدود من (أيديولوجية) بعض الأصوات التي سمنت تحت تلك الظلال المخيفة، ويقع بالمقابل التشديد المتوّهم، المُغْرض وتضخيم الأصوات المعارضة لقمعها الأدبيّ والسياسيّ والأخلاقيّ.
لنتحدث مرة أخرى عن (الشاعر الغريب في المكان الغريب):
1- فترة السبعينات: الأحكام المريحة مسبقة الصنع
ما زال الحديث عن فترة السبعينات قائماً على ما يبدو في العراق. للتو قرأت مادة عن كتاب الشاعر هاشم شفيق (بغداد السبعينات) وقبلها قرأت مادة عن كتابي (الشاعر الغريب في المكان الغريب). كلاهما لا تودّان الاعتراف بأمرين: حق الآخرين بامتلاك تصوراتٍ مُغايرَة عن (الرواية الرسمية) عن تلك الحقبة، والثاني توقفهما عند تصورات قديمة عن الأسماء التي جرت مناقشتها، تصورات عمرها أكثر من أربعين عاماً تغيّر الزمن فيها وتبدلت الكائنات. أجزم أن أحد النقاد المذكورين أعلاه لم يقرأ لي كتاباً شعرياً واحداً منذ خروجي من العراق عام 1980. هذه فترة طويلة جداً. في المقالتين يفوح غيظ خفيّ عصيّ على الفهم، بأدب جمّ في إحداهما، وبقليل من اللياقة التي نتمناها في المادة الثانية.
الأحكام مسبقة الصنع مريحة، خاصة المستندة إلى المقولة الأيديولوجية (لصقة جونسن الثقافية)، لأنها تركن إلى الشائع والإشاعة ولأنها تعفي القائل من متابعة من يناقشه (كلاهما سيصمتان عن هذه النقطة الجوهرية). الأحكام المتعلقة بتلك الفترة مصنوعة أيضاً من طرف المؤسسة الثقافية الجرّارة للنظام السابق طيلة فترة حكمه المديد التي يتبيّن الآن أنها لم تستطع للأبد تثبيت قيمها وأصواتها. رغم ذلك نحن نحترم حق الكاتبين المطلق في التعبير عن نفسيهما، مهما كانت نوعية الأفكار المضمرة في مقالتيهما.
2- فترة السبعينات: البقاء في الماضي
عملياً لم يعش بعض شعراء جيلي إلا بضع سنوات في ثقافة العراق (خمس أو ست سنوات) من منتصف السبعينات حتى عام 1979- 1980. من المؤكد أنني كنتُ من بينهم. ومن المؤكد أننا كنا خلال تلك الفترة القصيرة نعيش على هامش مؤسسات الدولة الثقافية. لقد تكوّنا عملياً في مكان آخر إنسانياً وشعرياً وثقافياً، في حين أن المستفيد إنسانيا وثقافياً وتقدياً كان من بقي هناك من هذا الجيل. كان أي تطوّر وتغيّر آخر في مكان آخر من العالم غير مرئيّ ولا حاضر ولا معترف به بالتالي. من يكتب اليوم عن هذه الفترة من داخل البلد يبدو وكأنه محكوم بتلك الشروط. بعض الجسارة التي يكتب البعض بها لا تنمّ عن معرفة، وتشير بالأحرى إلى البقاء في الماضي، وبعضها بالحنين إلى ماضٍ شكّل وعيه النقديّ والأخلاقيّ. الهجرة بدورها لم تساهم في تعرُّف المهاجرين العراقيين، إلا جزئياً، على التطورات الواقعة في وعيهم الإنسانيّ والثقافيّ ولكن لأسباب أخرى. نحن لا نقرأ لبعضنا إلا عرضاً في حين لم يقرأ الآخرون لنا قط. الاعتراف بذلك كله من أصعب القضايا.
3- فترة السبعينات: المرويّات المغايرة
عن فترة السبعينات، كلما خرجت مرويات مختلفة عن المرويات الرسمية، والأقاويل الأيديولوجية القطبية الزائفة، كلما أطلّت علينا أصوات مغتاظة. وكلما كانت المرويات الجديدة موثقة بالأدلة والمنطق والشهادات الشخصية كلما ازداد الغيظ. أعرف أن الثقافة العربية والعراقية تفضّل عموماً المعتقدات والأحكام الأحادية دون لوينات ولا ظلال، لأن اللوينات والظلال تستوجب التدقيق والفحص والضمير. على كل حال، لا يستطيع أحد طمر الحقيقة.
* انشغالاتك الابداعية المختلفة زاحمت عرش الشعر فيك، هل هي أقنعة متعددة للشخصية ام هي في نفس الوقت اقنعة للتخفي؟
- لا أفهم دائما لماذا يُطالب الشاعر أن يكون حيواناً لغوياً ذكياً. وإذا انصرف إلى شأن غير الشعر فكأنه تخلى عن عجمته الإعجازية، ونكص عن الشعر. الشاعر كائن يفكّر أيضاً كما أعتقد، وحقول الفكر تتضمن الشعر وغيره، دون التخلي عن تلك الغريزة الشعرية قط.
لا أنشر الكثير من الشعر اللحظة وأمتنع عامداً، مع احترامي لمن يفعل، حتى لو وقع تثبيت صفة الكاتب أو الباحث فقط عني، لأن الشعر يُبتذل اليوم على نطاق واسع عبر وسائط كنا نتمنى أن تكون لصالحه فصارت نصيراً لشبيهه. من فضائل وسائط التواصل الاجتماعيّ، أنها تسمح لنا جميعا بالاسترسال لقول فكرتنا بدقائقها، وهو ما لا يسمح به دائما الحوار العربيّ وجهاً لوجه، حيث يقع إسكاتنا أحياناً عنوة ومقاطعتنا مراتٍ عمداً لإثبات خلاف ما نقول حتى لو زوراً. ذلك الإسكات وتلك المقاطعة هي وسيلة من وسائل نفي شخوصنا الثقافية والشعرية، وعدم منح ما تقول أيما أهمية. هذه الوسائط بالنسبة لي تحطّم ممارسة عربية مريبة، جد مريبة رغم كثرة ثرثرتنا فيها.
ما فائدة الإفراط في نشر الشعر على الفيسبوك أو الصحافة الورقية نفسها، مادامت (الجمهرة) تزعم أنها تكتب شعراً مثلك؟. لا بأس، لكني حذر غاية الحذر. ما فائدة الإفراط في نشر الشعر في الصحافة العربية نفسها ما دام المخرج والمشرف الأدبيّ يضعه في نهاية الصفحة وبحجم صغير؟. أليس في ذلك مغزى وأيّ مغزى.
أحببتُ قولكَ (أقنعة). أقنعة للكائن نفسه وبالهموم الجمالية والإبداعية نفسها دائماً.
* ما الذي كنت تبحث عنه في دراسة الرسم والنحت ومن ثم الاجتماع، علم الاجتماع خاصة، ثم الفن الإسلامي..؟
- أبحث عن الوجوه المتعددة للجمال، لتعابير الجمال وكناياته التي ظلت رافداً لشعري. كتب عن روافد شعري المشار إليها في السؤال بعض من قرأ نصوصي وتابعها جاداً مثل عباس بيضون فيما سبق.
مهما فهمنا من صياغة هذا السؤال، فالإجابة صعبة بالنسبة لي، خاصة وأني أدّعي السير ضدّ الخفّة الحالية، شعرياً وتشكيلياً، باحثاً عن أعمال تستحثّ الوعي والبهجة كليهما، وكلاهما يقعان في صلب الشعر والشعرية.
لاحظ، وأنت سيدي المعنيّ بالسينما، أن متابعة الفيسبوك تؤكد أن القارئ العربيّ يهتمّ بالمكتوب أكثر من اهتمامه بالمرئيّ. لو كان الاستنتاج صحيحاً، علينا إعادة النظر ببعض بداهاتنا الثقافية.
لكن فن الشعر موصول داخلياً بالفن التشكيليّ الذي يشغلني بعمق بصفتي شاعراً. الاهتمام بالفن الإسلاميّ الذي هو موضوع أطروحتي، يبقينا في (تاريخ الفن العام) حتى لو تخصّصنا بمرحلة أو مدرسة أو ضرب فنيّ. وهنا علينا القول إن الأوهام ما زالت تحيط بمفهوم الفن الإسلاميّ اللحظة، لكأننا نستبعده من (تاريخ الفن) لأنه يتضمن الصفة (إسلامي)، وهذا من الأوهام الصافية، إذ لا علاقة للدين الإسلاميّ بفن لا يبشّر أو يحرّم شيئاً. عندما نعالج الفن الإسلامي فإننا أمام أشكال وصور وأسلوب جماليّ تتعرّف العين عليه بصفته ذا خصوصيات جمالية وأسلوبية معروفة بالنسبة للدارسين. من جهتى درستُ هذا الفن، في المقام الأول، كحقل برهان سوسيولوجي على مفهوم (مجهولية) الفنان من عدمها في حقبة ما، وكان ذلك يتطلب التعمّق، بدرجاتٍ متفاوتة، بتاريخ الفن نفسه من أجل المقاربات الممكنة والصالحة للموضوع.
• أنت صاحب مشاريع وافكار حيوية تبدأ في مواقع التواصل لتنتهي بحوثا وأطاريح.. نقف عند (المتحف الفوتوغرافي الافتراضي) هذا المشروع اخذ منك الكثير.. والاستجابة كانت بالمستوى نفسه.. ما الذي تحدثنا عنه؟
- (المتحف الفوتوغرافيّ الافتراضيّ) جهد توثيقيّ للتاريخ الاجتماعي والسياسي والعمرانيّ للبلد عبر الصورة الفوتوغرافية، لا أنفي عنه متعتي الشخصية. حقيقة الأمر أن تاريخ العراق البَصَرِيّ (واستطراداً العالم العربيّ) ما زال حكراً على قلة قليلة من المكتبات الخاصة وجامعي الصور والأرشيفات الصحفية المحلية والمكتبات العالمية، وأن هناك ضرورة لفتح الألبومات العائلية العراقية أو بعض ما تنطوي عليه لجميع الناس بعد مضي هذه الفترة الطويلة. جامعو الصور يبخلون على عامة الناس والأرشيفات العائلية مغلقة إلى حد بعيد والمكتبات العالمية تحتاج إلى جهد من أجل استخراج كنوزها الفوتوغرافية، لذا وجدتُ ضرورة للقيام ببعض ذلك انطلاقاً من أرشيفي وألبومات من عاونني، وما أجده هنا وهناك أو أشتريه. إنه مشروع كبير بدأ للتو خطواته.
يبحث المتحف عن مموّل وطنيّ، يحب إرث العراق والعالم العربيّ، ويتمسك باستمراريته وتطوّره، من أجل القيام بمشروع حقيقي: بناية ما، متسعة قليلاً، لعرض مجاميعه للجمهور العراقيّ في العاصمة بغداد. الأفكار (concepts) المتعلقة بطريقة عرض الصور، وأجنحته، وأقسامه مكتوبة وجاهزة للتنفيذ. وهي في الحقيقة لا تكلف مبالغ كبيرة.
ومرة أخرى للشعر علاقة بالفوتوغرافيا: كان الماضي دائماً مغلفاً بطاقة شعرية، وقد اسْتُحضر الماضي مراراً لاستحثاثه تلك الطاقة، أو لاعتباره كناية (كفافيس). أليس هذا ما تستحثّه الصورة الفوتوغرافية القديمة أيضاً: إنها أكثر قليلاً من محض توثيق بارد. فيها حرارة الكناية وتشابك الرمز وحيوية الصورة الشعرية القابلة للتأويل.
عندما تمسّ المرء تلك الرجفة الصغيرة، عندما تحضر تلك الفكرة الغامضة الهاربة، ذلك الشعور بأنه في فضاء روحي آخر، ذلك الوعي العميق بالأشياء المتجلي فجأة كأنه البداهة التي كانت غائبة، تتماثل الفوتوغرافيا مع الشعر أيما تماثل بأدوات مختلفة. أتحدث عن تماثل analogie.
من جهة أخرى ثمة نوعان من الوصف أيضاً، وهما وصفان يشتركان بين الشعر والفوتوغرافيا. سأعود لظاهرة الوصف المشتركة ريثما تصفو هواجسي. ثمة شعرية للسرد، كما يعرف الجميع. الصورة الفوتوغرافية تقوم، بطريقةٍ ما بسردٍ ما، أيضاً. الفارق بين سردٍ فوتوغرافيّ وسردٍ فوتوغرافيّ آخر، هي بالضبط بين سردية شعرية متمكّنة من أدواتها وسردية باهتة غير متمكنة، حكّاءة. لن نعاود قول مفهومات كتاب سوزان برنار المقدّس عن قصيدة النثر، إنما نحيل جواره لشعر عمر بن أبي ربيعة عربياً، ثم شعر عربي وعالمي في اتجاه شعرية السرد والحكاية.
الصورة إذنْ مجاز، ونفهمها كمجاز لاواعين غالباً، ولكن بوعي في مراتٍ كثيرة. ما المجازيّ وما الحقيقيّ؟. المجازيّ هو الذي يتشبث بهيئة الحقيقيّ ليتضمن دلالة أشمل، كنائية أو استعارية أو رمزية، من المظهر الخارجيّ للحقيقيّ. أليس هذا ما تقوم به الصورة؟.
بالطبع عندما أنشر صور المتحف الفوتوغرافي لستُ عارض الأنتيكة، أو الموثّق، أو المؤرخ، إنما أفكر بالصورة بالمعنى هذا، لذا لا أقنع قط بأن يقع الاهتمام بصوري المنشورة بصفتها أنتيكة أو توثيقاً أو تأريخاً أكبر من الانتباه لهذا النوع من التفكير بالصورة: الشعريّ المُضْمر، القويّ، بل العنيف.
• ترجمتَ لهنري ميلر ورينيه شار وريلكه.. المترجم الحديث لا يكتفي بنقل المعنى، بل انه يسعى الى نقل التقنية التي قيل بها النص.. كما يقول صلاح نيازي.. ما تعليقك؟
- الأستاذ الشاعر صلاح نيازي مَعْلَم بارز في ترجماته، وأحترم وجهات نظره. وأودّ أن انقل لك في البدء ما قاله الصلاح الصفدي (1296 - 1363م): "وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعاني، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتا وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديّة بوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها".
منذ وقت مبكر إذنْ ثمة وعي بخطورة الترجمة الحرفية التي، وبشكل متناقض سافر، يرغب بها اليوم بعض دعاة التأويلية والجمالية في الترجمة.
ترجمة الشعر هي تمرين على الشعر نفسه. هي تجربة التماهي مع شاعر آخر بطريقة إشكالية لا تستطيع أن تفقد بها، مع ذلك، روحك، ولا أسلوبك ولا خياراتك اللغوية. إنها تأويل. أنها اجتهاد.
أرى من جهتي أن عملية الترجمة تتأرجح بين (الاجتهاد) و(القياس) دون (تكفيرٍ) لمن شُهد له بالبراعة. لقد خبرنا سجالات "تكفيرية" بشأن الترجمات الشعرية خاصة. نظرياً يعترف أصوليو الترجمة بالتأويل جوهراً للترجمة، لكن عملياً لا يعترفون إلا بأنفسهم كمؤوِّلين للنصوص. في المقاربة بين تلك السجالات والوعي الأصولي الترجمي استشهدتُ مرةً بأربع ترجمات متوالية لقصيدة أدغار ألن بو "الغراب" إلى اللغة الفرنسية، اثنتان منها على يد شاعرين من كبار شعراء الفرنسية، واستنتجتُ أن المقدار الذي يذهب فيه تأويل تلك الترجمات للبيت الأول وحده من قصيدة بو، كان يمكن أن يدفع بتكفيريينا إلى أشد الفتاوى تطرفاُ، وهو ما لا يحدث في الثقافة الفرنسية التي تُدرك المغزى العميق لعملية التأويل وتسمح بفسحة كبيرة من الحرية لخيار المترجِم.
عدا ذلك لم أقع على السياق الذي يتحدث فيه أستاذنا نيازي عن نقل التقنية لكي أبلور رأياً.
• في مجال التحقيق تخصصتَ برحلات ابن فضلان المقدسي وابن بطلان، لماذا هذا التخصص.. وهل التحقيق لديك سيشمل فروعاً اخرى في التراث الإسلامي؟
- سأقول لك كيف توصلتُ إلى الاهتمام بمثل هذه الرحلات (كما في رحلة أبي دلف التي آمل صدورها عن جامعة الكوفة): لقد عرفتُ أثناء كتابتي لأطروحتي أن المنسيّ والمهمش في كتب التاريخ الإسلامي عن الفنون الحرفية وفنون العمارة والآثار القديمة قد مرّ عليه الرحالة عرضاً، لكنهم مرّوا. وهو أمر يمنح المَعْنِيّ شذرات جوهرية عن حياة الحرفيين الفنيين والزجّاجين والخزّافين والبنائين بل الحياة الاجتماعية بشكل غير متوقع قط. المقدسي نفسه كان نقّاشا على الحجر كما يذكر، وأبو العتاهية كان خزّافاً ... الخ. سأنقل لو سمحت ما يقوله المقدسي عن نفسه لرؤية هذا البعد السوسيو-أنثروبولوجي:
"لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذتُ منه نصيباً -غير الكدية- فقد تفقهتُ وتأدبتُ واختلفتُ إلى المدارس، وتكلمتُ في المجالس، وأكلتُ مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقانيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطـُردتُ في الليالي من المساجد، وسحتُ في البراري، وتهتُ في الصحارى، وصدقتُ في الورع زمانا، وأكلتُ الحرام عيانا، وصحبتُ عُبّاد جبل لبنان، وخالطتُ حينا السلطان، وملكتُ العبيد، وحملتُ على رأسي الزبيد، وأشرفتُ مراراً على الغرق، وقُطعتْ على قوافلي الطرق، وخَدَمتُ القضاة والكبراء، وخاطبتُ السلاطين والوزراء، وصاحَبتُ في الطرق الفُسـّاق، وبعتُ البضائع في الأسواق، وسُجنتُ في الحبوس، وأُخذتُ على أني جاسوس، وعاينتُ حرب الروم في الشواني، وضَربتُ النواقيس في الليالي، وجلـَّدتُ المصحف بالكراء، واشتريتُ الماء بالغلاء، وركبتُ الكنائس والخيول، ومشيتُ في السمائم والثلوج، ونزلتُ في عرصة الملوك بين الأجلـّة، وسكنتُ بين الُجهّال في محلة الحاكة، وكم نلتُ العز والرفعة، ودُبـِّر في قتلي غير مرة، وحججتُ وجاورت وغزوتُ ورابطتُ، وشربتُ بمكة من السقاية السويق، وأكلتُ الخبز والجلبان بالسيق، ومن ضيافة إبراهيم الخليل وجميز عسقلان السبيل، وكُسيتُ خلع الملوك، وأمروا لي بالصلات، وعريتُ وافتقرتُ مرات، وكاتبني السادات، ووبخني الأشراف، وعُرضتْ عليّ الأوقاف، وخضعتُ للأخلاف، ورُميتُ بالبُدَع، واتهمتُ بالطمع، ودخلتُ في الوصايا وكيلاً، وأمْتَحَنتُ الطرارين، ورأيتُ دول العيارين، واتبعني الأرذلون، ودخلتُ حمامات طبرية والقلاع الفارسية، ورأيتُ يوم الفوّارة وعيد برباره وبئر قُضاعه وقصر يعقوب وضياعه".
• بعد عام 2003 كان هناك سؤال الثقافة إن صحت التسمية.. (مثقف خارج ومثقف داخل) ، (مثقف تابع ومثقف حر) وغيرها.. هل الثقافة اصبحت جزءا من المشكلة.. برأيك.؟
- أول أعمدتي في (المدى) كانت عن هذا الموضوع. وأعاود القول إن دياسبورا المثقفين العراقيين ليست صدفة في التاريخ، ولم يخرج أحد للنزهة ولا مهاجراً من أجل العمل في بلد كان هو نفسه مصدر استقطاب لملايين العمال العرب المهاجرين. هذه الدياسبورا هي نتيجة رفض لقمع اللغة وإذلال الخيارت باتجاه خيار واحدي وكسر شوكة الحرية وتكبيل حتى كلامه اليومي العادي. المنافي، حسب تجربتي، لا تسمح لأية ثقافة، بوصفها فعل جماعةٍ، بالنمو والتطور لأن الثقافة تحتاج إلى استتباب جغرافي في المقام الأول. لعلها تتطور على المستوى الفرديّ لدى كل مثقف على حدةٍ، وهذا شأن آخر مختلف.
لعلي أيضا من القلة التي ما زالت تزعم أن ثقافة العراقيين القاطنين خارج العراق قد قادت إلى بلورة شخصية محدّدة أخرى للشعر العراقي. هذا غير مقبول أبداً بالنسبة للبعض، أبداً، بسبب شعور وطني عارم منفعل لا يريد البتة التفريق بين (ثقافة الداخل) و(ثقافة الخارج)، كأن تفريقاً من هذا القبيل سوف يصيب الثقافة العراقية بالمقتلة أو يساهم في تقسيم البلد. وفي حين يرفض الرافضون هذا التفريق نظرياً فإنهم يستخدمونه عملياً في الكلام النقديّ والممارسة الخفيّة أو العلنية. كل يوم وحتى في هذا السؤال نفسه. نحن نجده تفريقاً بديهياً محايداً ينطلق من شعور لا يقل عنفواناً وتأثراً وحبا للبلد لأنه توصيف موضوعي لا غير. ماذا نفعل لأجيالٍ من الأولاد والبنات الذين وُلدوا خارج العراق ولا يعرفون حتى النطق بالعربية كما يجب، بل ذهب بعضهم بعيداً في منافيهم دراسين المسرح والموسيقى والسينما والأدب الأجنبيّ، بل حتى في كتابة الشعر بلغة أخرى بالنسبة لمن كبر في الخارج. الخارج والداخل من هذه الزاوية ثراء للثقافة المحلية العراقية، مثلما مَنْ كتب بالفرنسية في الجزائر في وقت من الأوقات هو جزء من تاريخين أدبيين في آن واحد: الفرنسيّ والجزائري، أي يقع أيضاً في خارج وداخل الثقافة الوطنية الجزائرية.
لعل الثقافة، والشروط الموصوفة، صارت جزءاً من المشكلة كما تقول، خاصة عندما لا يرغب بعضهم بتجسير الجسور والمساهمة بعودة المثقفين العراقيين.
قلتُ ذلك منذ أكثر من أربع سنوات، وأعرف أنه ما زال غير مرغوب به بعد.
جميع التعليقات 4
عوّاد ناصر
أفكار مهمة، صديقي شاكر، جديرة بالدرس والسجال. أنت مثقف متنوع ولا بد أن تأتي إجاباتك على ضوء تنوعك واشتغالك المتميز في أكثر من نوع فني، وأنا فخور بك لأنك ابن جيلي، مبدعا ودؤوبا وأكاديميا حقيقيا، شكرا لك على ما وفرته لي من معرفة ومتعة. وشكرا لعلاء المفرجي ا
yousif naser
اخي شاكر ، قرات المقال بمزيج طيب من الانفعال واللهفة والمحبة ، تابعت تسلسل افكارك وتبلورها وكانني انا الذي بعثت بك لكي تتحدث باسمي ، انت واحد من افضل المتحدثين باسم جيلنا ، ذلك ان لم تكن افضلهم ، اما عزيزنا علاء فقد وضع اصبعا على اكثر المواضيع اهمية في ما
عوّاد ناصر
أفكار مهمة، صديقي شاكر، جديرة بالدرس والسجال. أنت مثقف متنوع ولا بد أن تأتي إجاباتك على ضوء تنوعك واشتغالك المتميز في أكثر من نوع فني، وأنا فخور بك لأنك ابن جيلي، مبدعا ودؤوبا وأكاديميا حقيقيا، شكرا لك على ما وفرته لي من معرفة ومتعة. وشكرا لعلاء المفرجي ا
yousif naser
اخي شاكر ، قرات المقال بمزيج طيب من الانفعال واللهفة والمحبة ، تابعت تسلسل افكارك وتبلورها وكانني انا الذي بعثت بك لكي تتحدث باسمي ، انت واحد من افضل المتحدثين باسم جيلنا ، ذلك ان لم تكن افضلهم ، اما عزيزنا علاء فقد وضع اصبعا على اكثر المواضيع اهمية في ما