فريدة النقاش في اللقاء السنوي الذي تنظمه مكتبة الإسكندرية لعدد من المثقفين والباحثين والعلماء ليعرض عليهم الدكتور إسماعيل سراج الدين» مدير المكتبة وكتيبة معاونيه آخر إنجازاتها، شعرت كأنني أعيش على مدى يومين في كوكب آخر، وأن التطور المذهل في عمل المكتبة
 قد انتقل بنا ليس إلي قلب الحداثة وإنما إلى ما بعدها كمجمع للفكر ومنارة له، خاصة أن مديرها قد تعلم ودرس جيدا في أكبر الجامعات والمؤسسات العالمية، إلي جانب معرفته العميقة بالدور الذي لعبته مكتبة الإسكندرية القديمة كمركز إشعاع كوني للإنسانية كلها في زمانها.وفي المكتبة الآن مراكز بحثية متخصصة، وقاعة استكشاف للعلوم مخصصة للأطفال ، وهي في طريقها لترجمة موسوعة الحياة التي يتعرف منها الباحثون علي مليون و900 ألف نوع من الكائنات الحية من حيوانات ونباتات وطيور وكائنات حية دقيقة وتستخدم المكتبة في نقل الموسوعة الي العربية لغة اد يو ان ال.. وهي لغة خاصة بالكمبيوتر نقلت علوم الترجمة فعلا نقلة مذهلة من حيث الجودة والاتاحة والسرعة ، وتتعامل مع اللغة العربية منها وإليها.كثيرون مثلي عبروا في هذا اللقاء لا عن مجرد السعادة لأن في بلادنا مثل هذا الصرح المتطور والمنظم، وإنما عن القلق أيضا لأن المكتبة مثلها مثل مؤسسات أخرى- وإن قليلة- ليست إلا جزيرة شبه خيالية معزولة نسبيا عن التردي المفجع في جل شؤون المجتمع المصري من التعليم للصحة، ومن الإسكان للنقل، ومن الثقافة للإعلام وهو ما كاد الحضور أن يجمع عليه وقدم كل في مجاله وقائع وحقائق مؤلمة قد تدعو أشد المتفائلين إلى اليأس.ووصف الدكتور محمد نور فرحات واقع الجزر المعزولة بأنها مراكز للتميز شأن إدارة قناة السويس والسد العالي وحرب أكتوبر، وأضيف أنا مركز الكلى في المنصورة الذي أسسه وأداره بكفاءة وعلم الدكتور محمد غنيم ليصبح هذا المركز واحدا من المؤسسات الصحية العامة المتقدمة والمنظمة المتاحة للجميع والمتحررة من قبضة البزنس الطبي0 وهي تستهدف المجتمع لا جمع المال.ويرفض من أسميهم بالمثقفين التقنيين الاعتداد بما أعتقد أنه جذر هذا التردي العام الذي تحول الوطن بسببه إلى جزر معزولة عن بعضها البعض لا يربط بينها رابط ويتمثل هذا الجذر في حزمة السياسات العامة والتابعة والمدافعة عن مصالح حفنة من كبار رجال الأعمال وهي تفتقر من ثم إلى التخطيط الاستراتيجي والرؤية الواضحة التي تربط الأجزاء بعضها بالبعض وتوجهها صوب الهدف العام إذ إن مثل هذا الهدف العام غائب وتحل محله كلمة غامضة هي التنمية بينما المفترض أن يكون الهدف الأشمل هو التحرر الاجتماعي القائم على عدالة توزيع الثروة والالتزام الصارم بمقتضيات العصر التي جعلت من العلم والتكنولوجيا الحديثة الفائقة الاختيار الوحيد لضمان القوة والانتعاش كما يقول الزميل أسامة غيث عبر الترابط الوثيق بين كل مؤسسات المجتمع.ولا تتعلق هذه القضية بالتمويل وحده - على أهميته وإنما تتعلق أولا وقبل كل شيء بالإرادة السياسية الحرة، والرؤية المستقبلية الشاملة لدور ومكانة البلاد ووجود مشروع نهضوي تلتف حوله كل القوى الحية ويطلق مواهب الشعب كله.زار أحد العلماء مؤخرا كوبا الفقيرة التي تحاصرها الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسين عاما، وفاجأه لا فحسب التقدم العلمي المذهل والمؤسسات البحثية خاصة في مجالي الصحة والدواء، جنبا إلى جنب العلاقات اليومية الوثيقة بين ما يزيد على أربعين مركزا للبحث منتشرة في انحاء البلاد تتبادل الخبرات وتراكمها معا وتبني عليها ولم يتحول تقدم أي منها إلي جزيرة معزولة كما هو حال مكتبة الإسكندرية في بلادنا، ففي كوبا إرادة سياسية وطنية حرة.حين سيطرت مصر على مقدراتها وتحررت إرادتها السياسية في ستينيات القرن العشرين بعد أن خاضت معركة مشرفة لاسترداد قناة السويس من أيدي الأجانب حققت طفرة تنموية هائلة تفوقت على كوريا الجنوبية التي بدأت معها والآن تتعاقد كوريا الجنوبية مع دولة الإمارات العربية لإقامة أربع محطات توليد نووية للطاقة، بينما يتلكأ البرنامج الذي ينشئه الأجانب، وتقفز كوريا إلى الأمام وتتراجع مصر للخلف.أذكر أنني التقيت في (موسكو) قبل سبع سنوات بعدد من علماء الطاقة النووية المصريين الذين تحدثوا بحماسة - تشوبها المرارة - عن الإمكانات العلمية المصرية المهدرة في هذا الميدان، وعن قدرة هؤلاء العلماء - لو توافرت لهم الفرصة- على إتيان المعجزات في البرنامج النووي. وبعد سنوات قليلة عرفت أن أغلبهم هاجر من مصر ومع ذلك تبقى مكتبة الإسكندرية مثالا فائقا لما يمكن أن ينجزه المصريون لو توافرت ظروف ملائمة.