TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > ايقاظ العلامات النائمة..محمود شبّر ومعرضه الأخير في بيروت

ايقاظ العلامات النائمة..محمود شبّر ومعرضه الأخير في بيروت

نشر في: 21 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

باشر الفنان الفرنسي (كلت ابراهام) في صيف 2010 بتدشين مشروعه الجمالي الصادم في مدينة فلورنسا ، التي يقيم فيها منذ عشرين عاما ، عبر تلاعبه بدوال إشارات المرور ، والعلامات التعريفية للمدينة ، وتحوير مدلولاتها بما لا يتفق مع أغراضها الطبيعية . وكانت تلك

باشر الفنان الفرنسي (كلت ابراهام) في صيف 2010 بتدشين مشروعه الجمالي الصادم في مدينة فلورنسا ، التي يقيم فيها منذ عشرين عاما ، عبر تلاعبه بدوال إشارات المرور ، والعلامات التعريفية للمدينة ، وتحوير مدلولاتها بما لا يتفق مع أغراضها الطبيعية . وكانت تلك هي المرة الاولى ، ومنذ زمن طويل ، التي يتنبه فيها سكان وزوار هذه المدينة التاريخية ، التي شكلت لقرون ماضية ، مركز النهضة الأوروبية ومهد انطلاقتها الى إعلانات مدينتهم الدالة ، حيث تم تجاوز النظر اليها كنوع من الالغاء بالتكرار او اهمالها بالتعود . ولكنها استيقظت أمامهم من جديد منكشفة على أهمية جمالية وتزيينية (beautification ) .
النقاد من جانبهم ، بخاصة انهم يعيشون قريبا من واحد من اهم متاحف الفنون في العالم ، واقصد متخف اوفتزي ، انصرفوا الى تأويل مشروع كلِت على انه مزحة خفيفة الفن ، او ضربا من ضروب البوب الارت التي لابأس منها ، لكن بعضهم أخذ التجربة على محمل الجد ، وعدها انزياحا جماليا يجب التعاطي معه بموقف نقدي جمالي رصين .
تذكرت كل ذلك ، وانا اقرأ المحاولات الجريئة وغير المتوقعة ، التي تصدى لها فنان مجرب " داخل إطار الحدود المقبولة للتجربة " هو محمود شبّر ، الذي راح يعبث بإشارات مدينة من مثل مدائن العراق ، وتحديدا العاصمة بغداد ، ولكنه لم يعبث هنا بأصول الموجودات الأصلية لهذه العلامات المهملة ، كما فعل كلِت وإنما نقلها الى صالة العرض ، بعد ان أعاد انتاجها جماليا في مشغل سري غير مكشوف للعابرين كما هو الحال مع تجربة الفنان الفرنسي .
ولئن بدت محاولة كلِت تزيينية ذات طابع جمالي ، فان تجربة شبّر كانت مأساوية و تؤشر للخراب العميق في مدننا ، وضياع العلامات الدالة في عوالمها الكارثية التي شكلتها الفوضى وغياب اي موجه سياسي وأخلاقي وثقافي .
وحيث ان مدينة فلورنسا التاريخية ، لم ترتبك للتحريفات الواقعية ، التي اجراها الفنان الفرنسي بسبب من استقرارها العمراني العريق ، فبغداد مثلا ، وكما وردت في دوال محمود شبّر ، كانت تشي بالضياع ، كما كانت طرقها تؤدي الى المجهول .كان شبّر يريد ان يعيد تركيزنا على المهمل بفعل العادة من جهة , ومن جهة اخرى ، كان يختصر الخراب ويكثف قوته . فقد عملت فرشاته بحس عميق على اهانة العلاقة التواضعية للغة ، التي مثلتها الإشارات والإرشادات ، ليجعلها قادرة هذه المرة على توكيد خطاب واحد يتمركز حول الكارثة .
باقتصاد واضح ومعالجات مهارية عالية ، ليست بجديدة على خبرة فنان متمرس ، جاءت هذه الخطوة النادرة ، التي تقدم بها شبر نحونا بمغامرة مفاجئة لمواجهتنا بثقة وجرأة لا يقدم عليها الا من امتلك تلك الروح الشجاعة للفنان ، بوصفه انقلابا على الطبيعة . وهو بذلك لا يحرر تجربته الشخصية من سجن التداولية المستقرة للأعمال الفنية ، وإنما يمنح الفن العربي والعراقي بشكل خاص ، جرعته من الفنون الحديثة ، التي ظل هذا الفن مترددا ازاءها وعلى نحو اجده شخصيا قد تأخر كثيرا . وبظني فانه لو اندفع في المستقبل للأمام بخطوات إضافية قادمة ، مغادرا مركزية الشروط التقليدية والمستقرة للطبيعة التقليدية التي ترافق لعمل الفني ، فانه سيأخذنا الى تخوم جمالية اكثر انسجاما مع روح عصرنا وقيمه الفنية . وانا اثق به وبقدرته على المجازفة وواثق ايضا بروحه المضطربة ومزاجها الحاد ، وولعه بالعمل في المناطق غير الحيادية من الجمال .من داخل أعماله ، أستطيع فقط ان اشيركم الى دور اللون الاسود ، السلاح المطلق بيد شبر في تشتيت استقرارية ألوان اللوحات المرورية وعلاقاتها المتشابكة حروفيا ورمزيا ، والعلامات الدالة الاخرى ، فقد جعل شبر من هذا (اللون ) مادته الرئيسة لاستدعاء الكآبة من المدن المنكوبة الى الجمال . واذا كان لابد من تقعيد تاريخي لهذه التجربة ، فلا يمكنني القول ، الا كونها حادثة تاريخية غير قابلة للنسيان في مسيرة الفن العراقي . سوف نتذكرها على الرغم منا ، مهما اختلفنا على أهميتها ، فهي وبحق ستشكل سابقة لا يمكن قراءة خارطة التجريب في الفن العراقي من دون وضعها في مركز هذه الخارطة .
العافية في الفن ، تلك المحاولة التي تخلصنا من الركود والدوران على أنفسنا ، تأتي دائما من المغامرين الذين لا يخافون النقد . ومحمود شبّر يؤكد لنا انه من بين هؤلاء وبجدارة علينا ان نحييه من اجلها.
الفن كان نائما في إشارات المرور واستيقظ . هذا هو الملخص الجمالي لمعرض محمود شبّر في ارت سبيس - الحمرا في العاصمة اللبنانية بيروت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram