لي من إرث هذا الرجل الكبير أربعة منجزات، أولها : ترجمته لرواية (كاتسبي العظيم) للروائي الأمريكي الرائع سكوت فيتزجيرالد، الذي سنقتني في وقت تالٍ رائعته (رقيق هو الليل) ترجمها الدكتور خليل إبراهيم حماش، وراجع نصها العربي الدكتور مجيد بكتاش، فضلاً عن تر
لي من إرث هذا الرجل الكبير أربعة منجزات، أولها : ترجمته لرواية (كاتسبي العظيم) للروائي الأمريكي الرائع سكوت فيتزجيرالد، الذي سنقتني في وقت تالٍ رائعته (رقيق هو الليل) ترجمها الدكتور خليل إبراهيم حماش، وراجع نصها العربي الدكتور مجيد بكتاش، فضلاً عن ترجمته لكتاب (اتجاهات جديدة فى الأدب) للناقد جون فليتشر، وإذ أجد نسخة روايته الوحيدة (تماس المدن) معروضةً في واجهة إحدى المكتبات، فاني أبتاع نسخة منها وأقرأها بمتعة
فهي رواية أفكار، رواية مثقفين حالمين، فضلاً عن حيازتي كتابه الصغير الصادر عن الموسوعة الصغيرة - عام 1984، والتي كانت تصدُرها دائرة الشؤون الثقافية والنشر ببغداد والموسوم بـ (مقالات نقدية مختارة) ، ويحتوي الكتيب على خمس دراسات ثرية ومهمة عن رواية (دون كيخوته لسرفانتس) ورواية (موبي ديك) لهرمان ملفل، فضلاً عن دراسة عن الروائي جوزيف كونراد، ودراستين كتبهما مارسيل بروست الأولى عن تولستوي والثانية عن دستويفسكي، وإذ توطدت علاقة ثقافية روحية مع المنشئ والمترجم والمثقف المهم نجيب (عبد الرحمن) المانع (1926-1991) لأسباب عديدة منها صدق الرجل مع ذاته ومع منجزه ومع الناس، وقوله قولة الحق التي تغضُب دائماً لوحشة طريق الحق وقلة سالكيه، فما أن رأيتُ كتابَه الذي نَشرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد بطبعته الأولى عام 2011، التي استحدثت عدداً من السلاسل منها (سلسلة وفاء) والموسوم بـ(جسارة التعبير) حتى اقتنيته وزاد من شغفي بالكتاب أن من قَدَّم له وحرره هو الشاعر والمترجم والباحث العراقي المغترب الدكتور صلاح نيازي . وهو أول كتاب أقرأُه من إنشاء الأديب المانع، إذ ان كل الذي قرأناه له هو من المترجمات واضعين في الحسبان أن الاستاذ نجيباً علم من أعلام الترجمة في وطننا العربي .
آذته صراحته
يوم عُينت في مصلحة توزيع المنتجات النفطية في 28/ من نيسان / 1965 موظفاً، كان يصلني الذكر الحميد والإشادة بخصال السيد نجيب المانع من الموظفين والعمال الذين سبقوني في العمل فيها، بوصفه أول مدير عام لهذه المصلحة الحيوية بعد سياسة التعريق التي انتهجها الحكمُ الجديد في الجمهورية الأولى، لكن هذا المثقف الأنيق ما استطاع العيش في أجواء التملق والتزلف، والناس -غالباً- مجبولون على هذه الصفة، والحكام في دولنا يطربون للزلفى لذا سرعان ما نُقِلَ الى وزارة الخارجية أيام وزيرها الدكتور هاشم جواد (الاوقاتي) الذي رحب به لكفاءَته واخلاصه واهليته، وإذا كان المانع قد كتب مقالات في جريدة (الأهالي) لسان حال الحزب الوطني الدمقراطي بزعامة الأستاذ كامل الجادرجي، قبل أن يحصل الانشقاق فيه، وأراهُ بدفع من رئيس الوزراء كريم قاسم، الذي كان لا يرتاح لوجهات نظر الأستاذ كامل، فتولى السيد محمد حديد قيادة الانشقاق صيف سنة 1960، وليؤسس الحزب الوطني التقدمي، وليصدر جريدة يومية اسمها (البيان) ما لبثت أن توقفت كما توقفت (الأهالي) ، فكتب مقالات عن المحكمة العسكرية العليا الخاصة برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي ولاسيما في محاكمتها لعدد من ضباط جحفل لواء المشاة الخامس بالموصل، وإنها ما كانت تتسم بالعدالة والمهنية فأغضبت هذه المقالة رئيس الوزراء (الجنرال) فتحينها فرصة سانحة أو بارحة ليفصل نجيباً الذي كان يحتمي بالدكتور الوزير النزيه والكفء هاشم جواد (الاوقاتي)، والذي كان ممثلاً للعراق لدى هيئة الامم المتحدة قبل أن يستوزر للخارجية.
وإذ يطالب (الجنرال) بضم الكويت الى العراق، بُعَيدَ إعلان استقلال الكويت عن بريطانيا في نهاية شهر حزيران /1961، والعاصفة التي أُثيرت حول هذه المطالبة غير المدروسة والمتسرعة، والتي لم يعلم أحد بها سواه، وهذه رواية الزعيم الركن سيد حميد سيد حسين قائد الفرقة الأولى، الذي أثيرت بشأنه الشائعات العاصفة، إذ يذكر سيد حميد، أن مجموعة من الوزراء والقادة العسكريين وقادة فرق الجيش العراقي، كانوا مدعوين على مائدة عشاء في دارة الفريق الركن محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة العراقي، وإذ أزفت الثامنة مساءً طلب (الجنرال) جهاز الراديو المحمول وأخبرهم بضرورة الإنصات لسماع خبر مهم، فأنصت الجميع ليعلن مذيع أخبار الساعة الثامنة من إذاعة الجمهورية العراقية، خطاب الزعيم وهو يطالب بضم الكويت الى العراق، وسط دهشة الجميع . قائد الفرقة الأولى سيد حميد سيد حسين، بعد سماعه الخطاب طلب من (الزعيم) الإذن بالسماح له ان يتوجه الى الديوانية حيث مقر قيادة فرقته الأولى التي بعهدتها امن المنطقة وحتى البصرة، لكن (الزعيم) يطلب منه البقاء، والتجول ليلاً في شوارع بغداد الخالية، ومن ثم العودة لوزارة الدفاع حيث مقر رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة!
سيد حميد يؤكد في مذكراته : تحدثنا في مواضيع شتى ولم نتحدث عن أزمة الكويت!!
في هذه الأزمة العاصفة يتوجه الدكتور هاشم جواد وزير الخارجية الى نيويورك لحضور جلسات مجلس الأمن الدولي لمناقشة الأزمة الناشبة، ويتولى (الزعيم) وزارة الخارجية إضافة لوظيفته، فكان أول عمل قام به فصل نجيب المانع مستغلاً سفر الوزير، وكان الدكتور عبد الحسين القطيفي وكيل الوزارة يقدم له بريد الوزارة، ومن قرأ مذكرات الدكتور عبد الحسين يلمس بساطة رئيس الوزراء وعدم معرفته بالأصول الدبلوماسية في المخاطبات بين الوزارة والسفارات العالمية! وهذه كارثة الكوارث وبقي هذا الأديب مرهف الحس عاطلاً حتى نهاية الجمهورية الأولى، فيقدم للمحاكمة لأسباب شتى منها أفكار نجيب المانع اليسارية والديمقراطية، ولكن القاضي النزيه والقاص والروائي فؤاد التكرلي يحكم ببراءته!
ولد نجيب (عبد الرحمن) المانع في مدينة الزبير، هذه المدينة المطلة على صحراء مترامية الأطراف، تتجه نحو المملكة العربية السعودية والكويت، فضلاً عن أنها تضم معلماً تراثياً وأعني به مقبرة الحسن البصري التابعي الجليل، هذه المقبرة التي كُنت أحرص على زيارتها كلما زرت البصرة يوم كنت أعمل في مستودع نفط ناحية العزير أثناء السنوات (1965- 1968) لقراءة الفاتحة على روح الشاعر بدر شاكر السياب الثاوي جدثه هناك، فضلاً عن شمائل أهلها الطيبة في الصدق وعدم المساومة في البيع والشراء، فالسعر واحد، وإذا كان موعد الصلاة، رأيت من يسير حاثاً الناس على الصلاة بقوله : الصلاة يا مؤمنين، فيترك الناس محالهم التجارية من غير أن يغلقوها على الرغم مما تزخر به من بضائع غالٍ ثمنها خفيف حملها! واكثر الناس توجساً وخيفة يضع قطعة قماش على البضاعة وكفى الله المؤمنين.
منذ نعومة إظفاره شغف نجيب بالقراءَة والكتاب، وإذ كانت توجهاتُه الأولى دينية، فانه ما لبث أن مال نحو الآداب الأوروبية، ولعل الكتب التي كان يبيعها الضباط والجنود الانكليز أيام الحرب العالمية الثانية، والذين كانوا يعسكرون في قاعدة الشعيبة، بعد أن فرغوا من قراءَتها، فضلاً على التي تركوها بعد الانسحاب منها نهاية الحرب، والاسطوانات الكلاسيكية لأساطين الموسيقى الغربية : شوبان، موتسارت، فاكنر، بتهوفن، قد غيرت أذواقه نحو الثقافة الغربية، ولو كان نجيب الذي تخرج في ثانوية البصرة بالعشار قد انتظم بالدرس في كلية الآداب، شأنه شأن لِداتهِ واقرانه : بدر ونازك ولميعة عباس عمارة وعبد الرازق عبد الواحد، في قسم اللغة العربية او قسم اللغة الانكليزية لصقلت دراستُه موهبتَه وامكاناته وفجرتهما، لكنه ويا للأسف يذهب لدراسة الحقوق ونصوص القوانين الجامدة، فأثر ذلك على مسيرته الثقافية - كما طوحت الدنيا بالأديب الكبير الأستاذ عبد الحميد الرشودي لدراسة القانون – فضلاً عن الفنان الرائد يوسف العاني، هؤلاء الثلاثة، الذين ما مارسوا مهنة المحاماة للبون الشاسع بين تطلعاتهم وقراءاتهم وما يحبون، ونصوص القانون الجامدة.
نجيب المانع مترجمٌ بارعٌ
حذقه للغتين الانكليزية والفرنسية، جعله يقرأ للكتاب الفرنسيين، الذي يرى ان الأعمال المثيرة حقاً، هي أعمال تصنع في فرنسا . إنها أيضاً بؤرة الكثير مما يدخل في نطاق الأبداع الفني . إنها بؤرة فقط، أو إذا شئنا استبدال هذا المجاز فلنقل إنها مراكز التصفية – تراجع ص6 . ص7ـ من كتاب جون فليتشر آنف الذكر - فضلاً عن قراءَته للكتاب الانكليز، لذا ترى كتبه الموضوعة أو المترجمة زاخرة باسماء كتاب أوروبيين وغربيين : بروست . جيمس جويس . كا فكا . هرمان ملفل . جين أوستن . فرجينيا وولف . تولستوي . لير منتوف كوكول . ديستويفسكي - . بوشكين تورجنيف . د هـ . لورنس . ف . سكوت فيتزجيرالد . آلان روب غرييه، فضلاً عن أساطين الموسيقيين الكلاسيكيين، الذين أبهظت اسطواناتهم ميزانية هذا الرجل، فجعلته هذه الهواية، التي تقترب من الهوس باقتناء المئات لا بل الآلاف من هذه الاسطوانات، ينوء بالديون التي اساءت الى علاقته ببعض الناس، ولأنه كان دائم التنقل والترحال، بسبب سوء أحوال بلده، فانه كان يترك هذه الجمهرة الكبيرة من الكتب والأسطوانات لدى بعض الاصدقاء الذين لا يحسنون خزنها، بل يحاولون التخلص منها والأنزواء بها باماكن قد يصل إليها ماء المطر، أو تعبث بها الحشرات والرطوبة، وما خير كُتبه واسطواناته في بيروت ببعيد عن أذهان الدارسين .
بعد أن طوحت الدنيا بنجيب المانع بأماكن شتى فمن الزيير حتى البصرة ومنها الى خانقين وكركوك ومن ثم الى بغداد، فبيروت ومن ثم العودة إليها ومغادرتِها نحو الجزيرة العربية التي تعود اصوله إليها، وأخيراً حط طائره في لندن، وكان قد سبقه إليها الشاعر صلاح نيازي زوج شقيقته القاصة والروائية سميرة المانع، فكتب نجيب في جريدة (الشرق الأوسط) التي ما لبث أن اختلف مع القائمين عليها فغادرها، ترى هل كان نجيب يعاني حدة في الطباع؟ أهذه الحدة موروثة أم مكتسبة بسبب الإخفاقات التي مَرَّ بها؟ ومعاناته الغربة الذاتية والروحية، وجل المبدعين إن لم أقل كلهم يعانون غربَةَ الزمان والمكان، فالفرق شاسع بينهم وبين العوام، الذين لا يحسنون سوى الاكل والشرب والتناسل، والاهتمام بفارغ القول والتصرف، وما أروع قولة مَن غاب عن بالي اسمُه : أن تكون إنساناً فهذه مسؤولية ومهمة شاقة.