لم يكن أبو بكر البغدادي على تلك السذاجة، كما اعتقدنا، أو كما اعتقد الكثيرون، ذلك أن الظفر المركّب الذي حققه تنظيمه الإرهابي تم على أكثر من جبهة تتمثل بالإدارة التسويقية لفلسفة الرعب التي ينشرها عبر الإنترنت وسائر وسائل الاتصال الحديثة الأخرى، (الإعلام)، والنجاح في استحصال المال، سواء عبر مموليه العلنيين اوالسريين (يقول فلاديمير بوتين ان هناك أكثر من عشرين دولة تدعم "داعش") عدا النفط العراقي المهرب والجبايات المحلية (الاقتصاد) وأخيراً: ستراتيجية اختيار الهدف واحتلاله ومسك الأرض، والنفاذ إلى أبعد من خريطته الجغرافية، عند الضرورة، وضرب المدن البعيدة مثل بيروت وبنغازي وبعض مناطق تونس وشمال مصر (العسكر) أي الخواصر الرخوة للدولة العربية، بعد المدن الأقرب.. الموصل والرمادي في العراق.
وراء ذلك كله تقف فكرة الكراهية المسلحة، وهي فكرة تنبثق من أشد الأفكار الإسلامية ظلامية والقائلة باتباع أسلوب الوحشية في الصراع مع غير المؤمنين بفكره الداعشي، أي من جميع الأمم والأديان والمذاهب والقوميات، بمن فيها "مسلمون"، وقد صاغ أحد منظّري "داعش" أبو بكر الناجي عنوانه "إدارة التوحش" حيث يجري تطبيقه عملياً في تنفيذ قتل الخصوم من الأسرى والمختطفين لديه ذبحا بالسيف، وشرعنته على ضوء استلهام الفكرة الوهابية وتعليمات ابن تيمية والاختيارات العشوائية من مفكرين إسلاميين آخرين ونصوص مقدسة وغير مقدسة يحفل بها التراث الإسلامي القديم.. أي ترويج الثقافة الدموية المتوحشة وتكرارها لتصبح في عداد التكرار الممل ليأخذ شكل الثبات والعادية والممارسة اليومية التي لم تعد تصدم أحداً!
اعترضت زوجتي، أمل، على سطور نشرتها في صفحتي على "الفيسبوك" قلت فيها: "فرق الدم العراقي والسوري واللبناني والليبي والتونسي والمصري عن الدم الفرنسي يشبه فرق العملة". تفهمت اعتراضها لأنها سيدة غير عراقية (من جذور أمازيغية جزائرية) والجائز أنها لا تفكر مثلي، أنا العراقي الذي يحترق غضباً وحزنا على أبناء بلده واخوته في بلدان عربية شقيقة. ردت: لا، كلامك غير دقيق، فلون الدم البشري واحد مهما تلونت السحن والقلوب والوجوه، وما التضامن العالمي الواسع مع أهل باريس إلا بسبب غزوة مسلحة إرهابية خارجية، بلغتهم من وراء البحار، وهم الدولة المدنية، المثقفة، وباريس عاصمة النور، وبلد التنوير والفن، أما حروبنا المحلية، نحن العرب، فهي حروب بين بعضنا بعضاً، وقد يسعد هذا بعض الدوائر السياسية في الغرب، لكن صديقتيّ، إنكليزية وهندية، كثيراً ما عبرتا عن حزنهما وتضامنهما مع شعوبنا العربية المبتلاة بالعنصرية والإرهاب والفساد. ثم ختمت: اسألوا أنفسكم، خصوصاً المثقفين منكم، أي أن اللوم عليكم، بلدانا وشعوباً، عربية وإسلامية، ما الذي قدمتموه للعالم مقابل ما قدمه العالم للعالم؟.
القضية معقدة، يا صديقتي، فلو قرأتِ ما كتبه، الفرنسي الجزائري، محمد أركون في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" (*) وتحديدا ما عبّر عنه بمرارة بشأن النخبة المثقفة الغربية، والمشتغلين منهم في الاستشراق والبحث في أمور ديننا، لعرفت عمق المعضلة في "الحوار مع الآخر" الذي يتبنونه بفخر وتبجيل، ولكنهم لا يخرجون عن موقف مدرسي مسبق وراسخ إزاء الإسلام والمسلمين، حسب قوله، وعلى ضوء حواراته مع زملائه الأكاديميين الغربيين.
اليمين الغربي برمته، اليوم، من مثقفين وسياسيين، على غاية السعادة، وهو يزعق بالبرهان الساطع: أرأيتم؟ قلنا لكم لا تتساهلوا في قبول اللاجئين.. ضعوا أحياء العرب والمسلمين تحت المراقبة.. لا تسمحوا لهم ببناء المزيد من الجوامع.. عطلوا العمل بمبدأ "شنغن" للتنقل بين الدول الأوروبية!.
ليس هذا، حسب، إنما يفرض "داعش" حصاراً مقابلاً على سكان المناطق التي يحتلها ويصادر كل ما فيها، ويمنع أية محاولة للهجرة إلى دول الكفار، مطبقاً مبدأ "إدارة التوحش" لإنتاج دولة الكراهية المسلحة من بغداد إلى باريس.
الكراهية المسلحة.. من بغداد إلى باريس
[post-views]
نشر في: 23 نوفمبر, 2015: 09:01 م