"ان علم نفس المِشاعر الجمالية قد يمتد ليشمل دراسة منطقة أحلام اليقظة المادية التي تسبق التأمل، لأننا نحلم قبل ان نتأمل، وكل منظر هو تجربة حلمية قبل ان يكون مشهدا واعيا، ولا تُشاهَد مع إحساس جماليٍّ إلا المناظر التي رأيناها أولا في الحلم ... ان في الح
"ان علم نفس المِشاعر الجمالية قد يمتد ليشمل دراسة منطقة أحلام اليقظة المادية التي تسبق التأمل، لأننا نحلم قبل ان نتأمل، وكل منظر هو تجربة حلمية قبل ان يكون مشهدا واعيا، ولا تُشاهَد مع إحساس جماليٍّ إلا المناظر التي رأيناها أولا في الحلم ... ان في الحلم البشري فاتحة الجمال الطبيعي .. ان الحلم طاقة فيّاضة" (غاستون باشلار)
حينما كتبت مرة عن الرسام العراقي المغترب في بنسلفانيا صدر الدين أمين ، نوهت ان البنية الشكلية عنده كانت مؤلفة من واقعتين طوبوغرافيتين (تضاريسيتين) ماديتين: واقعة لونية، وواقعة خطية (كاليغرافية)، حيث تؤطر الواقعة الخطية محايثتها اللونية فتؤكد بذلك الشكل وحدوده النهائية التي تؤكد للون (وجوده المتعين)، وهو ما كان الرسام - الشاعر وليم بليك يؤكده حينما كان يصف بلاغة الخط، وأهميته، وخطورته في توكيد الحقائق، فمن خلال الخطوط القوية، والخشنة، تحدَّد الأشكالُ دون لبس، وبذلك يبني صدر الدين أمين عمله الفني من (تواشج)، أو تشاكل بين الواقعة اللونية والواقعة الخطية..
وقد نوهتُ في موضوع آخر عن الرسام فاخر محمد (وربما يشمل ذلك تجربة عاصم الأمير في درجة ما وفي بعض مراحله) فكتبت ان فاخر محمد يبني عمله على (تجاور) الوجود اللوني، والوجود الخطي، واشتغالهما المتجاور والمستقل وكأنهما شريحتان مستقلتان تم فرزهما ثم إعادة جمعهما معا على سطح اللوحة، ما يستدعي وجودُ إحداهما وجودَ الأخرى بالضرورة..
وها نحن نعاين أعمال الرسام كريم سعدون في معرضه المشترك الأخير مع الرسام احمد بجاي، الذي افتتح على قاعة آور في مدينة مالمو جنوب السويد، ونقارنه مع تجربتي: فاخر محمد وصدر الدين أمين، لنخلص إلى ان كريم سعدون حينما وثق مع كل لوحة موادها الداخلة في بنائها، فإنما يكون قد فصّل الطبيعة المادية لعناصر أعماله، وبأنها متشكلة من: اكريليك، وطباعة، وقلم حبر، وبذلك فهو يقدم مفتاحا لمعاينة عناصر البنية المادية لأعماله، فهي متشكلة من ثلاثة عناصر (مستقلة) في طبيعة اشتغالها، ماديا وتعبيريا، فأرضية لوحة كريم سعدون مؤثثة بحشد من العلامات الطباعية: احرف، وأرقام، وبقع، وملصقات طباعية لا دلالة مسبقة لها، وأهم أهدافها أن تشكل (حقل متعرجات)، أو سطحا رثا يمنح الرسام فرصة (اكتشاف) أشكال كامنة في هذه الأرضية التي يستنبطها من النظرات البكر لهذه الأرضية الطباعية، وحالما يتم الإمساك بالأشكال (الكامنة) في الأرضية الطباعية يتم وضع مسحة اللون لتشكل شبح أشكال مشخصة، تماما كما يتشكل التكوين الهلامي للجنين قبل تشكل أعضائه.. وان كانت اللوحة في مرحلتها الطباعية تنتمي إلى التجريد فإنها تتشح بوشاح تعبيري حينما يبدأ اللون بإعطاء القارئ فرصة تبيّن أشباح مشخصات.. إلا أننا، وعلى خلاف التوقّع الأولي، يبدو أن لا رغبة عارمة لدى الرسام في أن توضح خطوطه الواهية أي شيء، فيبدو انه لا يعول عليها مطلقا في تحديد الأشكال، وتميزها، وعزلها عن الخارج، ولذلك ليس للخط عند عبد الكريم سعدون أي من الأهداف التي يترجاها صدر الدين أمين من خطوطه الخارجية القوية والخشنة، ونعتقد أن مهمتها هنا الإيحاء بشكل استعاري يلمّح للشكل ولكن لا يشخصه.
تستدعي أعمال عبد الكريم سعدون في ذهني النظام الداخلي السرّيّ لقصيدة النثر: انفلاتا وفوضى لا حدود لها، وانضباطا محكما بصرامة، في الوقت ذاته، وهو ما يؤكده غاستون باشلار "تنقاد المادةُ إلى التقويم باتجاهين: اتجاه التعميق، واتجاه الانطلاق، فباتجاه التعميق تبدو غير قابلة للسبر كمثل لغز، وتبدو باتجاه الانطلاق، باعتبارها قوة لا تستنفد، باعتبارها معجزةً"(الماء والأحلام)، ففي حالة الفوضى تجد لوحته وكأنما تعيد احد أهم أطوار استحالة المادة في وجودها المنفلت ، فان خطوطه، وألوانه، وأرضياته الطباعية المنفلتة كأنما هي بقايا معركة لم تبق خلفها فوضاها العارمة إلا بذور (حكايات)، وأبطال ومشخصات تبني وجودا سرديا لا تخطئه عين خبيرة.