TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هلْ من أصداء لقصيدتنا العربية؟

هلْ من أصداء لقصيدتنا العربية؟

نشر في: 6 ديسمبر, 2015: 09:01 م

في غمرة تأملي بشأن "القصيدة المفكرة"، وأنا أنجز كتاب "القلب المفكر" في الشعر، قرأتُ كتاباً صدر عن أكسفورد، للمفكر الإيراني مهدي أمين رظوي، بعنوان "نبيذ الحكمة" عن الشاعر عمر الخيام، في حياته، شعره وفلسفته. والخيام، كما نعرفه، شاعرٌ بالدرجة الأولى، عاش في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، (تُقدّر وفاته بسنة 515)، أي في القرن الذي ختم فيه الشعر العربي مراحل إنجازه لشعره، الذي نفخر به اليوم. قبل أن يدخل في عتمة مرحلته المظلمة، التي انصرف فيها الشعر إلى العبث واللعب اللفظيين.
ولأن شعراً مجاوراً آنذاك، كالشعر الفارسي والهندي والصيني، لم ينصرف هذا الانصراف اللفظي العابث، لدليلٌ على أن هذا الميلَ اللفظيَّ سمةٌ كامنة في الشعر العربي منذ مراحله المبكرة. لأن الذي جاء بعد الخيام في الشعر الفارسي أصواتٌ شعرية من طراز جلال الدين الرومي (توفي قرابة 672ه)، وسعدي الشيرازي (قرابة 690ه)، وحافظ الشيرازي (قرابة792ه). وجميعهم شعراء بالدرجة الأولى، ولم يُحسب لهم ميلٌ لهذا العبث اللفظي والبلاغي. مع أن الشعراء الثلاثة يُتقنون العربية ويكتبون الشعر بها، وأقاموا زمناً في بغداد للدرس والتحصيل. ولكن أحداً منهم لمْ يُنتزع من هذا الميل الشعري، التأملي، ذي النَفَسِ الفلسفي. بالرغم مما يُروى عن سعدي الشيرازي أنه كان ذا تأثير على الشعر العربي، ولكنه تأثير يقتصر على النظم الموسيقية المعروفة في الشعر الفارسي، ولا يتعداه إلى هذا القلق الروحي، التأملي، ذي النَفَس الفلسفي. ونحن نعرف أن هذا العامل بالذات هو الذي جعل لأصوات هؤلاء الشعراء أصداءً تتردد، وتتسع مع السنوات، في الشعر العالمي، والفكر العالمي، والذائقة العالمية. وهو العامل ذاته الذي حرم الشاعر العربي من هذا الأفق، إذا ما استثنينا شاعراً بالغ الشذوذ في ميله التأملي كأبي العلاء. ولكنه مع ذلك لم يجد له مُتّسعاً بين الخيام، رومي والشيرازييْن.
ويُنكر عليّ كثيرون هذا الموقف، وعادة ما يستظلون راية النظريات العنصرية التي أملاها الغرب في مراحل الاستعمار، مع أن أحاديثي لا تتجاوز الملموس، والتاريخي، إلى النظري المجرد. ولا تتجاوز ما كتبه مؤرخو العرب والفكر العربي أنفسهم، من أمثال أحمد أمين، طه حسين، جواد علي، علي الوردي، الجابري، وكثيرين غيرهم. ولكن استظلال الراية النظرية، والهرب من مواجهة النفس لا الآخر، هو ذاته وليد ميل لفظي، للأسف. لأن الميل اللفظي كالميل الزخرفي في الفن البصري محضُ تجريد. وإذا صلُح هذا على الفن البصري، الذي عماده الجمال، فإنه لا يصلح بالضرورة على الفن الكلامي.
وإنني لا أشذّ عن منطقي هذا حين اعتبرت موقف الشاعر أدونيس، بشأن الشعر والأخلاق (راجع أعمدتي السابقة)، إنما ينتمي في جوهره لهذا الميل اللفظي، حين يرى أن الشعر يجب أن يقوّمَ جمالياً فقط. أي، على سبيل المثال، يجب أن نقتصرَ على الاحتفاء بتأثير سعدي الشيرازي على الشعر العربي، بالنُظمِ الموسيقية المعروفة في الشعر الفارسي فقط. ولا نتجاوزه إلى أفق ورؤى الشاعر الروحية والفكرية.
وهذا صدى لرأي الجاحظ، شيخِ النقاد، في عصر الازدهار العربي. فقد كان يرى الشعرَ، لا في المعاني: "فهي مطروحةٌ في الطريق يعرفُها العجميُّ، والعربيُّ، والبدويُّ، والقرويُّ، وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزن، واختيارِ اللفظ، وسهولةِ المَخرجِ، وكثرةِ الماء، وصحةِ الطبعِ وجودةِ المعنى، لأن الشعرَ صناعةٌ وضربٌ من النسج والتصوير." وجاء رأيه الشهير هذا في معرض نقده لذائقة أبي عمر الشيباي، الراوية، لفرط إعجاب الأخير بالبيتين التاليين:
لا تَحْسَبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلى                                 وإنما الموتُ سؤال الرجالْ
كلاهـــــما مـــــــوتٌ ولكـن ذا                                       أقطعُ من ذاك لِذُلِّ السؤالْ
فالشيباني أعجب بالمعنى. والاعجاب بالمعنى لا يعني إنكار جمال الصناعة. لأن جمالَ صناعة الشعر، كما أرى، وليدُ جمالِ المعنى بالضرورة. ولكن الجاحظ وأدونيس لا يرغبان في النظر إلى فن الكلام بهذا المنظار.
هذا استطرادٌ ضروري، لا يخرج عن سياق رغبتي في الحديث عن كتاب  المفكر الإيراني مهدي أمين رظوي، الذي سأواصله في حديثي القادم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram