علية الإدريسي البوزيدي، شاعرة مغربية تستفيق كل صباح وقد غسلت ليلنا بماء الكلام، جميلة قصيدتها حين تستكين إلى جدار، فتعلق ما عنَّ للروح أن تشهر في وجه المحو، بليغ صمتها حين تمسك اللغة من نحرها المجنون. سألتها بلا مقدمات، فأجابت بلا نهايات أو وعد
علية الإدريسي البوزيدي، شاعرة مغربية تستفيق كل صباح وقد غسلت ليلنا بماء الكلام، جميلة قصيدتها حين تستكين إلى جدار، فتعلق ما عنَّ للروح أن تشهر في وجه المحو، بليغ صمتها حين تمسك اللغة من نحرها المجنون.
سألتها بلا مقدمات، فأجابت بلا نهايات أو وعد بالتصنع، ثم كان هذا الحوار:
* اشتباكك بالقصيدة أشبه بالقتل العمد، كيف تصفين لحظة الاشتباك هذه، وما هي مبرراتها؟
- لنتفق أولا, ما أشعر به الآن يجعلني أتزوج مرارا هذا الحمل الذي أنجبه فضولي العجوز، لذا لا أعتقد أن الاشتباك يسار العالم قد يورث جروحا منسية أو قروحا مشقوقة، لكن البستان يضايقه طول الشتاء.أنا لا أقتل بل لا أستطيع رسم ذاك العالم الذي بدلوا اسمه بهذه السرعة. ما يحدث روته سفينة أغرقها السحر، لذلك تراني دائما أنظف لغتي قدر الإمكان من روث جديد حتى لا تنثني رائحة الغد، وحتى أوفر بعض الخطيئة لأعزفها لأطفالي الصغار في مخيمات الكتابة.
* القارئ لقصيدة علية الإدريسي البوزيدي، يتحسس أطرافه وأشياءه، كأنك تأخذينه في جولة خارج رباط الممكن.هل تصرين على هذا المآل في قارئك المفترض؟
- أحيانا كثيرة يداهمني مخاض الولادة فأنزوي قريبة مني في انتظار هذا المولود الذي كل ما أتمناه أن يكون في قبضة الجمال التام، فلا يمكن إجبار القارئ المفترض على متابعتك كأسعار الخضر. لكن، وفقا لذائقتي المركونة أمامي ألتقط صورا وأنظر إلى عيونها حتى الإيمان بعدها وأهنئ الفراشة على منزلها الجديد وأنثر أثري في هذا العالم الذي قد ينقذني بقارئ يسحرني كشجر اللوز المر.
* في "حانة لو يأتيها النبيذ " تبرعين في الحضور من خلال الغياب، تضعين القارئ في منطقة خندق، بين الميل إلى واقعية شعرية مفرطة، و بين إعلاء النص وتجريده من ذاتيتك! كيف كان سلسا هذا الجنوح في ديوانك الأول؟
- "حانة لو يأتيها النبيذ" ديوان قدمني للآخر الذي فككت له عوالمي المنسية بنوع من التأخير، لذا جاءت نصوصي في هذا الديوان على شاكلة حرب متجمدة تبيع أماكن حقيقية وتهرّب حدوسا جميلة، تحت كم قديم.. ربما كنت أخشى عليّ من الفوضى التي أحبها، لكن ثمة موت كان يستمر في قتلي كطوق نجاة، لذا كان الوقت مناسبا جدا لانتحار جديد كي لا يكتم البحر صوتي كلما حولت أكياس الحب إلى عناوين مختلفة وشكلت مع الحانة اتجاها آخر، لأعود فراشة تحب الليل وتخسر أول السطر.
تصور! رغم كل الحزن فأنا كنت أسرق مني أروع حلم لأعين نفسي قطرة مطر في كأس شجرة.
* هل كان هواء الحانات شحيحا لتستجدي "هواء طويل الأجنحة"، ثم تفتحين أفقا للطيران مجهول المحطات ؟
- عندما نكتب نكون على استعداد تام لإعادة رسم الأشكال الهندسية بطريقة يخيل إلينا أنها الأصح. هناك فرق زمني شاسع بين العملين فالنار التي أصابتني في "حانة لو يأتيها النبيذ" هي نفسها في مجموعتي "هواء طويل الأجنحة" وإن كنت غير محترفة، ما دامت الكتابة تسرق منا الهواء كما تسرق منا الساعات الباردة. لذا أجد نفسي متورطة باستمرار في فضح ألاعيبي التي تركت المعبد واسترخت بجانب الصفصافة القديمة كهواء طويل الأجنحة.
* بين الشعر و أشباهه ذرة لغة، ونثار استعارات، علية، كيف تميزين بين هذا وذاك ؟
- علي أن أزيح من على كاهلي هذا الموت الذي لا يتراجع في أن يصبح شرطيا بيده مسدس. الشعر هو ذاك الشيطان الذي يجعلك تصدق أن النار التي تكتوي بها هي تلك التي تطهو عليها عشاءك الأخير عندما تصيبك لوثة الشعر، وهي بالمناسبة من أجمل ما يمكن أن يحدث لك إذ ستجد نفسك وصيا تتبع آثار العالم بشكل غامض، ومرات كثيرة تتسلح بعزيمة قديمة تخرجك من صدئها وتحزن بصوت مجروح. الشعر هو ذاك الحبل السري الذي يحملك إلى عوالم ولا تنتهي القصة ونظل نكتب، وما نكتبه لا نجده.
* دائمة السفر أنت، و كأني بك تبحثين عن زمن ضائع لن يعود، فمن الرباط إلى تونس الخضراء، و منها إلى باريس ذات الأنوار، ثم قرطبة الجامحة! من كل هذه المحطات، اكتشافا وعبورا، هل وجدت نفسك أيتها الجبلية الحالمة؟
- الأمكنة التي أذهب إليها هي منازل أجدادي.. أزورها كي لا تتنكر لي الريح وأنا أحاول أن أنعش التراب الذي يعلو حذائي حتى تصالحني ديدان القبر.
أعرف أني أحب السفر كثيرا، حيث يمكنني التعرف على صديقاتي الشجرات وأصدقائي العصافير، لكنني أسافر أيضا كي أشتاق إلي، أنا القادمة من تاونات تلك المدنية الهادئة التي تقطنها جدتي وصديقتي النجمة.
* "هواء طويل الأجنحة" لم يكن طويلا، كما ينبغي لكنك تماديت في الفتك به، و أطلته ليطير، نحتاج أسماء العفاريت التي تسخرين لنمشي على دربك!
هل في الأمر سحر ظاهر أو باطن ؟ بصيغة أخرى، كيف صار الهواء طويلا وقد تعودنا على النظر إليه في تجاوزه للأبعاد؟
- "هواء طويل الأجنحة" ديوان حمّلته بعضي لأخرج منه صديقة للخريف وقد نقش على كتفي خريطة ليست بحوزتي، لذا ليس علي القلق إزاء فناجين القهوة ما دامت يدي ترتعش وحيدة لأقابل هذا المحيط الهائل بكسرة خبز جافة، تماما كتلك التي كان يأخذها الحجاج معهم.لكن عندما فتح الباب وخرج الهواء طويلا التقطته أيد غيرت بنفسي كثيرا.
* ردك غامض نوعا ما، يا علية، أريد أن نفهم بشكل شفاف جدا: هواء طويل الأجنحة ابن شرعي لعلاقة غير شرعية.. مع من؟
- كنت وما زلت أحب فصل الخريف رغم أني أخون الصيف في الشتاء وأخون الربيع في ملامح ملاح قديم. ما حدث هو أني وجدت قطارا بالقرب من بيتي فاستقللته بحثا عن كائنات تشبهني ولم أترك قلبي وحيدا، حتى عندما كنت أزور الليل واختلي بي.
* القطار مجهول المحطات، وصوت الدليل الآلي مبحوح من شدة التوقف! فكيف وصلت؟
- من قال إني وصلت ؟ القطار الذي يقلني عبر كل هذي البحار ومر على كل هذه الجبال، ليحملني كحبة قمح تريد أن ترى أثرها في هذا العالم.
لذا جئت من بطن أمي ذات شباط لأعتقل هذا الهدوء الذي يبيعني للكآبة بنصف حزن، وكي لا أصطدم بظلي صرت أوقف القطار ولا أنزل تماما، كما أوصتني أمي حين أعادت أبي إلى التراب.
* ماذا بعد يا علية؟
- سأتوجه إلى الطقس الذي في رأسي ليقلني إلى حيث تمطر وسأدفع بالعاصفة التي رسمتها نهاية الشارع لأنعطف استثناءً.
* بعد هذه الغربة المختارة، بعد الزحام، بعد المواويل الزرقاء، من يطربك من شعراء الألفية الثالثة بعد الميلاد؟
- أعترف لقد ورطت نفسي في أمور غريبة. ربما أكون قد خضعت لتدريبات اللون الأزرق لألتقي بأصوات خارج الزمان وخارج الدواليب.
السفر أشبه بحقيبة أرتب فيها دلائي المثقوبة.. أزورالعراق وأعرج على اليمن أبيت في السودان وأسلم على تونس.. أزور إسبانيا وأهاجر إلى أمريكا اللاتينية، أغير أرقام هواتفي ملوحة لصحراء أفريقيا وبوفاء تضاريس الأكراد أقايض اللغات التي يمكنني سماعها وأتلصص على هويتها وهي تعاشر جوعي للمزيد.
أحيانا بسبب الزحمة وكثرة الجمال وأحيانا أخرى أهرب من عرقي إلى حمام ورد في أدغال الصحراء.
* سيسألك الرعاة الجدد عن شكل القصيدة الأنقى، و أنا هنا أسبقهم بنرجسية مبالغ فيها. في ما تكتبين وعد بسرد غير مسبوق، هل قاربت السر؟
- برفقة الحب تعلمت أن أشم رائحة النعناع الحزين، ولأني مسكونة بالماء فتحت ضوءا عميقا في البئر ورتبت مواعيدي بالكثير من الفوضى، لأجالس بياضات تائهة تحت بقية الليل.. تماما كحبة قمح لم تستو على سوقها ألوّن جدران المعنى وأتحسس جثتي التي بعتها لرحيل أبي المبكر.
* أين تفضلين نشر الحوار يا صديقتي؟
- البحر شاسع فاصعد إلى سطح بيتك ولوح بهذا الرأس الذي يطل على البحر وهو صائم ودعني أنحف يا صديقي.