اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باب الورد وباب الدم

باب الورد وباب الدم

نشر في: 8 ديسمبر, 2015: 09:01 م

إلى أبنائي: أحمد وعاصم وأماني وعلي وأيمن وبراء ومناف وآدم

 

 إذا كانت الكتابة وطول الجلوس على المكتب لتدوين الأفكار والأحلام سببا رئيسا في آلام الرقبة والكلل في البصر والصداع في الرأس فإن للحرية ثمناً قد يأتي على الرقبة وما عليها. أقول ذلك وأنا أسمع البعض من الأولاد والمقربين والاصدقاء ممن ينصحوننا صادقين، بتجاوز بعض الخطوط الحمر، التي نتناولها في أعمدتنا أحياناً، إيماناً منا بأهمية الكلمة، غير ناكرين لنتائجها التي غالبا ما تكون سيئة، لذا نقول: يُخطئ مَن يعتقد بأن السعادة تأتي من باب الورد والتمتع بمفردات حياة طويلة. أبداً ، السعادة، غالبا ما تأتي من الدم ، إذ مَن يعتقد بأن الأفكار في الحريات والاصرار على إيجاد الحياة الحقيقية والعيش الكريم والتساوق إنسانيا مع المحيط الانساني لا تقود صاحبها إلى الاضطجاع على بركة الدم، قرب عمود مكسور للكهرباء أو على رصيف ترب، مجهول سيكون أكثرنا جهلاً وحُمقاً.
المثقفون والمفكرون والشعراء الحقيقيون هم متصوفة العصر الحديث، وإذا كان الحسين بن منصور الحلاج قد وقف طويلاً يلهج بدعاء سرمدي، طالبا العفو من الله عن جلاديه ومعذبيه أكثر من طلبه العفو لمريديه وأتباعه، فإن هؤلاء يقفون الموقف ذاته اليوم - ولا أستبعد نفسي- جاعلين حتوفهم نصب أعينهم، طالبين الحياة والرغد والهناءة لأبناء شعوبهم، وهم يعلمون علم اليقين بأن من بين أولئك الأبناء من سيقف وسيتصدى لهم بالبندقية والعبوة الناسفة والمسدس الكاتم، لكن المفارقة العجيبة هذه هي ما يؤلم ويوجع وُيدمي، وقد تكون الأهون عليهم من النهايات الدامية التي تعترض طريقهم هنا، في البصرة وفي بغداد أو في أية بقعة من عالمنا المليء بالخرافة، عند إنساننا الذي ما زال يعتقد بان للحقيقة وجهاً واحداً، لا غير، ذاك الذي استقاه من أشياخه، متيقنا يقينا قطعياً بانَّ ما في بطون كتب التاريخ من وقائع إنما يتجلى ويتمظهر في حياته اليوم.  
أقول ذلك وأنا أستحضر مشهداً حدث معي ذات يوم، فقد وقفت على قتلى فريقين تحاربا في البصرة، وهما في الأصل من طائفة واحدة، كنت صحبة قائد في الفريق المنتصر، أُجري حواراً صحفيا معه، كان متشفياً، سعيداً بالنصر الذي حققه أتباعُه ومريدوه، شاتماً، لاعناً قتلى الفريق الثاني. ولأن خوفي كان إنسانياً مشروعا قرب رجل منتصر، يطفح بطولة وزهواً، فقد صمتُّ، وطال صمتي، رحت بعيداً. وفي سورة من يأس بنهاية سعيدة للإنسان الذي بداخلي، تذكرت الحلاج، تذكرته مقطـّعاً محروقاً، رماداً تذروه أكفٌ داميةٌ، ليس فيها أيُّ ملمس للعطف واللطف والسماحة. تذكرتهُ، كأي شيخ متصوف، ينظر مفجوعا لحرمة وقداسة بقع الدم التي تغطي الارض القريبة من الحدث. وقد تقاربت الدماء، فقد كان من بين القتلى أتباع ومريدو صاحبي القائد المنتصر، لكنه كان منتشياً، سادراً، وكأي بطل أسطوري راح يفاضل أمامي بين الدَّمين، فيما أنا أنظرهما متساويين في الظلامة والقهر، فقد كانت خطوط الدم قريبة من بعضها، لا بل وجدتها تستقيم وتنحني وتتداخل وتشتبك ثم تتعانق بلون واحد، برائحة واحدة، لا أعرف لماذا كان صاحبي يبحث عن خلوده وجنته في دم أصحابه حسب؟
نحن، معشر المثقفين والمفكرين والشعراء، الذين قالوا كلمتهم وانتهوا إلى حيث سعادتهم، عند باب الورد أو عند باب الدم، أو الذين تقف دماؤنا بانتظار كلمتهم الأخيرة.  نحن لا ننظر بعين عوراء لأبنائنا من بني الإنسان، في العراق أو في أي مكان من الارض، فلا مفاضلة بين الدماء، إنما ننظر لهم بقلب مثقوب، كما يقول الكاهن الصائغ العظيم. نبحث عن حياتهم في الحب وقيم الجمال وأفواف الورد وعلى مقاعد الدرس وفي صالات المسرح وعلى مصاطب الحدائق العامة، نبحث عنها ونريدها لهم، خارج بقع الدم والصلف والحُمق والبطولة الزائفة والمعتقد الضعيف، خارج متون التواريخ، وإذا كان بينهم مَن لا يريدنا لحياته سُعاة، رفقاء، محبين، مضحين  من أجله، فهو في حرّ في استباحة لحمنا ودمنا، وما أرخصهما اليوم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram