ابراهيم الغالبيليس غريبا أن أتلقى دعوة للمشاركة بعمل ما في موقع يعنى بذوي الإعاقة الجسدية بسبب أنني واحد من هؤلاء الذين يصطلح عليهم بالـ "معاقين جسديا" وهو مصطلح لم أكلف نفسي عناء التفكير به يوما ولا الدخول في جدل حوله فبرغم أن بعض أصدقائنا الأصحاء يظهرون تحفظهم عليه،
بل واشمئزازهم منه إلا أن حديث "معاق جسدي" مثلي عنه يحمّلني ما لا طاقة لي به وبخاصة أن المتحفظين و المشمئزين والمتعاطفين لا يقترحون بديلا لهذه الصفة فكان من ألأفضل لي تركه جانبا فعلى أية حال لا يبدو الاعتراض أكثر من موقف أخلاقي مبالغ فيه فبعض الأشياء لا تمتلك بديلا لصفاتها التي سمِّيت بها، أوليس من فقد جزءً من وظيفة الجسد هو معاق حقا أم ماذا يمكن تسميته؟ لهذا قلت لصديق معاق هو الآخر عليك تقبّل هذه الصفة بمرح اعتبرها اسما يدعو للفخر مثل أسماء الجاهلية كصخر وحزام و ثعلب وعكرمة وعقاب وهلم جرا.. وكلها أسماء لجمادات و حيوانات كانت دلالة على القوة والشدة والبأس. على اثر تلك الدعوة قررت كتابة شيء عن ذوي الإعاقة و قد وجدت نفسي أفكر ببعض النماذج التي فرضت حضورها للاستشهاد بأن العوق الجسدي لا يقف حائلا أمام قدرة المرء على الإبداع فالكثير من مجالات الإبداع ليست مشروطة بقيد الصحة والتعافي الجسدي، هناك على الدوام منطلق مشترك بيننا جميعا و نكون عند خطه متساوين في الأهلية وإن اختلف ميدان العطاء أو تفاوتت النتائج. ترى كيف أستطاع الرسام التركي أشرف ارماجون أن يرسم الأشياء التي لم يرها بألوانها قط؟ أمر حير علماء جامعة تورنتو الذين عكفوا على دراسة حالته بقدر ما يحير الجميع كيف ألّف بتهوفن روائعه وهو أصمّ؟ في العلم برزت أسماء من ذوي الإعاقة الجسدية كانت لها بصماتها الواضحة أمثال إسحاق نيوتن ولا فوزيه وأديسون ولويس باستير وستيفن هاوكنغ الذي اعتلى أعلى منصب علمي أكاديمي في بريطانيا وهو مشلول، وفي الأدب تبدأ القائمة من هوميروس صاحب الملحمة الذائعة ولا تكاد تنتهي فهناك أوغست رينوار ومارسيل بروست وديفيد رايت ولوركا وبورخس وجون ملتون و.. الخ وعربيا فالأمثلة حاضرة منها الكميت الأسدي وأبو علاء المعري وبشار بن برد وأبو العيناء ومحمد بن سيرين الأصم والزمخشري الأعرج ولدينا طه حسين الأعمى والرافعي الأصم وغيرهم.. وثمة من يصنف بتكلف الكثير من العباقرة والمبدعين كمعاقين ذهنيا وربما عقليا ولا أعرف السر في ذلك! ربما مصدره الهوس في الربط بين العبقرية والجنون. الأسماء اللامعة كثيرة، لكنني في النهاية لم أجد نموذجا يستحق الحديث عنه كتلك المعاقة الأمريكية الفذة هيلين كيلر بوصفها المصداق الأجلى في فهم ليس قدرة المعاق على تجاوز قيود الإعاقة بل هي بذاتها درس للأصحاء قبل المعاقين في كيف يمكن للمرء أن يخلق إرادة قاهرة لا تقف بوجهها أية حواجز وسدود، وكيف ينظر المرء ويشعر بقيمة الحياة الحقيقية التي يعيشها.. كانت هيلين كيلر قد فقدت منذ صغرها حاسة البصر والسمع وبالتالي النطق أيضا فكانت عمياء صماء خرساء فهل هنالك قيد لإعاقة الجسد أكثر من هذا؟ لكن كيلر العمياء الصماء الخرساء لمست بيدها مخرجا ولو قلنا صدفة فهي لا تختلف إذاً عن صدف العظماء جميعهم، ومنذ تلك اللحظة التي رأت فيها مربيتها آن سليفان ما تتمتع به الصغيرة هيلين من ذكاء وقدرة على التجاوب مع المحيط الذي خال الجميع أنها تعيش خارج أسواره طفقت لتستثمر هذا الجانب في المعاقة الصغيرة لينتهي الأمر بعد سنوات أن تصبح هيلين كيلر الفتاة المعجزة التي حطمت سدود الإعاقة جميعا تلك التي ابتلاها بها القدر، وإذا بها تبلغ العشرين وهي تتخذ مقعدها مع الأصحاء المعافين في كلية رد كليف عام 1900، لم تتوقف هذه المتحدية العظيمة عند هذا الحد بل استمرت لتنجز واحدة من معاجز القرن العشرين فتحصل تلك العمياء الصماء البكماء على درجة الدكتوراه في القانون ولتسجل اسمها في موسوعات التاريخ كأشهر شخصية من شخصيات القرن العشرين. وهنا السؤال الصاخب هل بالفعل كانت كيلر عمياء وهي ترى طريقها اللاحب في هذه الحياة وتختط مسيرتها بإرادة حديدية؟ وهل كانت صماء وقد أحاطت بكل ما قيل عن الحياة وقوانينها وفلسفتها والتشريعات ومن وضعوها؟ وهل كانت خرساء وقد أسمعت صوتها أجيال عبر التاريخ و تحدثت في كتاباتها ومحاضراتها عن كل ما يدور في خلجات نفسها وأفكارها وانطباعاتها حول الحياة والناس؟ هذه القارورة الرقيقة امتلكت حواسها الخمس رأت وسمعت وقالت ما تريد، قبل أن تذهب ذهابا غير عادي حيث تركت اسمها يتردد في الذاكرة الأمريكية والعالمية، لم تكن كيلر بحواس خمس رغم أنف حواس الآخرين بل كانت لها حاستان أخريان، حاسة تنبئها بالقادم وتستشرف غيب أيامها تتوقع فتصيب وتخمّن فيقع المكتوب ولولا ذلك لما استطاعت الإفلات من عتمة العزلة المادية التي تحيطها ولما صمدت وحافظت على زخم انطلاقتها وإصرارها على المواصلة فكانت كمن يقرأ المستقبل أو عاشه بالفعل.. وحاسة أخرى تكاد تكون مثالها النادر، حاسة الإحساس بالحياة، بالصورة الأجلى والامتع والأوضح، وهي حاسة يفتقدها الكثير من الأصحاء ممن لا يعرفون قيمة وجودهم ومعنى الحياة التي يحيونها، ويمكن القول إن هذه الحاسة مشتركة بين ذوي الإعاقة الذين تتفجر
هيلين كيلر وحواسها السبع
نشر في: 13 يناير, 2010: 05:11 م