اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

نشر في: 12 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

*الى "ابراهيم العريس"، الذي اتعلم منه دوما!
تبقى "الدار" السكنية من المواضيع المحببة والمفضلة في النشاط البنائي الإنساني. انها "الثيمة" الاكثـر قرباً وحميمية للنفس البشرية، منذ ان هجر الانسان اسلوب حياته الاولى، متدرجاً في سلم التطور، و"بانياً" مهجع

*الى "ابراهيم العريس"، الذي اتعلم منه دوما!

تبقى "الدار" السكنية من المواضيع المحببة والمفضلة في النشاط البنائي الإنساني. انها "الثيمة" الاكثـر قرباً وحميمية للنفس البشرية، منذ ان هجر الانسان اسلوب حياته الاولى، متدرجاً في سلم التطور، و"بانياً" مهجعا و"مسكناً"، يقيم فيه، بعد تلك الجولات الهائمة والخطرة، التى اتسم بها اسلوب حياته السابقة. كان البيت، اذاً، النشاط "المعماري" الاول، الذي افتتح به الانسان عهداً جديداً، مستهلاً مرحلة فريدة وبارزة في تراتبية  الارتقاء، التى ستقوده يوما ما الى ما هو عليه من حضارة، وثقافة وعلوم.. ومدن مكتظة بتجمعات سكانية على اختلاف انواعها!

لكن "البيت” السكني ليس مجرد "تقطيع" فضائي، يهتم بايجاد روابط مقنعة لأحياز متنوعة الوظائف، ومشغول بمواد انشائية؛ انه اعمق من ذلك بكثير! وهذا "العمق" هو الذي يضفي على المكان خصوصية، تمكن ساكنيها ان يعيشوا فيه بكل حميميتهم. فالبيت، في الأخير، ما فتئ يعتبر في "مبناه" و"معناه" بمثابة موضوعاً لجدلية قائمة بين <المتناهي في الصغر> و<المتناهي في الكبر>؛ بين "الميكرو" و "المايكرو"  Micro وMacro ، او وفقاً للتعبير الشاعري لـ"غاستون باشلار"، في كتابه الاشهر <شاعرية المكان> (ترجمه غالب هلسا بـ "جماليات المكان" ونشر، اولا، في بغداد سنة 1980) "الحيز المحبوب، وقبل كل ذلك الحيز الحميم، الحيز الملاذ، والذي يظهر بصفته <مبدأً حقيقياً للاندماج السيكولوجي للعالم في داخل الانا>، كما يذكرنا بذلك، ابراهيم العريس، عن مفهوم البيت "الباشلاري"!
بالنسبة الى العراقيين، كان امتلاك "بيت" سكني (ولايزال!)، حلماً يداعب مخيلتهم، واحياناً يعد عنواناً لجهدهم ولاجتهادهم .. ولانتماءاتهم، منذ ان "ظهر" بفورمه الرائع في مدينة <اور>، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة: مخططاً هندسياً، يتضمن احيازا تدور حول باحة سماوية مفتوحة. وبقى هذا المخطط المكتمل، الذي اهدته عمارة "مابين النهرين" الى البشرية، كنموذج راق وناضج لما يمكن ان يكون عليه "البيت" السكني بوصفه "..الملاذ الحميمي، الذي يعود اليه الانسان دائما، مهما تبدلت به الظروف والمتغيرات". اما بالنسبة الى المعماريين العراقيين، فقد كانت موضوعة البيت السكني دليلاً على الاجتهاد التصميمي، ومناسبة لاظهار صدقية المقاربة المعمارية المتبناة، ووسيلة ناجعة للتجريب. ما جعل من موضوعة السكن تحديداً، لأن تكون حاضرة، دائماً،  في "ريبرتوار" المعماريين المعراقيين المحترفين، مثلما هي موجودة عند المصممين المبتدئين. وفي كلتا الحالتين، لا يتوانى المعماريون المحترفون ومعماريو "الخطوة الاولى" بذل اقصى جهد تصميمي لبلوغ حل تكويني جديد: مميز ومعبر في آن، لتلك الموضوعة "القديمة". بالطبع، يهتم كثر من المعماريين غير العراقيين الآخرين بهذة الثيمة التصميمية. لكن ما اود ان اوصله للقارئ، هنا، من ان توق المعماريين العراقيين لايجاد حلول لإشكالية البيت السكني، كانت تقترن، باستمرار، بحضور نَفَس تاريخي عميق ومؤثر، ينطوي على ثراء تجريبي متنوع لتلك الثيمة، اجراها المعمار "الرافديني": اياً كان اسمه، في دورات تعاقب الازمنة والحضارات، التى قامت على اديم ثرى وادي الرافدين!
ودار "هديب الحاج حمود" (1972) في المنصور ببغداد (المعمار: رفعة الجادرجي)، احدى تلك التجارب اللافتة، في موضوعة السكن الرافديني، مثلما هي مميزة في منتج العمارة  العراقية، وفي المنتج الابداعي الشخصي للمعمار ذاته.
يعود تاريخ الدار، اذاً، الى مطلع السبعينات، وهي الفترة التى اتم المعمار بها احدى مراحل مساره المهني؛ المسار، الذي اثرى العمارة العراقية والاقليمية بفيض من النماذج التصميمية، التى اعتبرها، شخصياً، "ايقونات" بصرية لذلك المنتج التصميمي، الذي شهدته، وقتئذٍ، العمارة المحلية والاقليمية على حدٍ سواء. وكان يمكن لذلك المسار ان يضيف الكثير الى المشهد المعماري، لولا انه لم يُقطع قطعاً مفاجئاً وظالماً وتعسفياً من قبل النظام الديكتاتوري الشمولي حينذاك، عندما لفق دعاوى باطلة ضد الجادرجي، على اثرها اودع المعمار السجن، ما حال، فيما بعد، الى توقف الانتاج التصميمي للمكتب الذي اسسه المعمار، بصورة كاملة.  
والمرحلة الابداعية، التى اتحدث عنها، (والتى اعتبر ظهور "دار هديب الحاج حمود"، احدى نماذجها التصميمية الفاخرة)، هي المرحلة الاسلوبية التى بدأت عام 1965، وتحديدا، عند تصميم بيت "محمود عثمان" (1965) ببغداد، وكرستها، فيما بعد، تصاميم "كلية الطب البيطري" في ابي غريب بنفس العام. لقد اشرت مرة، الى خصوصية تنويعات تلك المراحل، التى مرّ اسلوب رفعة فيها، من خلال دراسة سابقة، كنت قد اعددتها عن منجزه المعماري بمناسبة ثمانينيته ونشرت قبل عشر سنوات. ليس، في نيتي،هنا، بالطبع، اعادة ما كتبته سابقاً، لكني تواق الى ذكر بان مرحلة تصميم "دار هديب الحاج حمود"، كانت مرحلة هامة ومميزة في ذلك المسار التطوري، الذي اتسم به مسار رفعة الجادرجي المعماري.
في كثير من الحالات، عندما يتعاطى المعماريون مع موضوعة تصميم البيت السكني، فانهم يلجأون الى امرين: اولهما، يكمن في نزوع المعمار الى تأكيد "الذات" المصممة، من خلال تخليق تكوين تشي مفرداته التصميمة بذلك التأكيد وبالرغبة في الاستدلال عليه، والثاني، يكمن في مراعاة المصمم لرغبات رب العمل و"ساكن" الدار المستقبلية والتماهي معه، اكثر بكثير من الاشارة الى "ذاته" المصممة. في عمارة "دار هديب" تلاقت تلك النزعتان على "سطح واحد"، لتطرح في الاخير، احد النماذج التصميمية ذات اللغة المعمارية الفريدة، التى لا تشبه اياً من تلك المسارات المألوفة الخاصة بتصميم "بيت سكني". من المعلوم، ان اصول "رب البيت" الذي نتحدث عن داره، ترجع جغرافيا الى جنوب العراق، حيث تمثل منطقة الاهوار وطبيعتها المميزة وشكل عمارتها الخاصة، الحدث الابرز في تلك الجغرافيا. لقد التقط المعمار، بذكاء، هذة "اللحظة الجغرافية"، جاعلاً من فكرة التصميمي المقترح، شكلا من اشكال التعبير الانتمائي للمكان، وبالتوازي مع ذلك، سعى وراء مواءمتها مع خصوصية المقاربة المعمارية التى يتعاطى معها وقتذاك، منتجا لنا، في الاخير، "فورماً" تصميميا مثيرا ومدهشا.
في "دار هديب"، ثمة قطيعة معمارية (بل واراها حتى ..ابيستمولوجية لمعنى البيت السكني!) تبدو واضحة للعيان، لما يشكله "فورم" الدار الاستثنائي، مقارنة مع تلك الفورمات المألوفة للدور السكنية البغدادية. ويمكنني ان اضيف، ان شكل واجهة الدار، هنا، تتجاوز حتى مألوفية المقاربة التصميمية التى اشتهر بها الجادرجي، وميّزته عن اقرانه من المعماريين العراقيين. فالعقد: "الطاق" الآجرى نصف الدائري، الذي يخلق بحركة ايقاعه المختلفة، مع تباين ارتفاعاته، صيغة التشكيل الاهم في معالجة الواجهة الرئيسية، يتمظهر هنا، بصيغة "قبو" ممتد، بديلا عن تلك العقود الآجرية التى ولع بها الجادرجي، واستخدمها في الكثير من مبانية التى صممها بعد 1965. ولئن كان حضور تلك الطاقات في جدران الابنية مختلفة الوظائف التى صممها الجادرجي، بصيغة "حفر" سطحية ذات بعدين لاقواس نصف دائرية، فانها  في "دار هديب" تغدو ثلاثية الابعاد، بسحبها الى الامام كقبو برميلي، وبابعاد مختلفة، تضفي على كتلة وواجهة الدار خاصية نحتية، لم تتملكها معظم الابنية السكنية البغدادية. لكنها ايضاً، وفي الوقت نفسه، ترسي مفهوماً جديداً لتمظهرات الانتماء في تشكيلات البيت السكني البغدادي.
بالطبع، ان مهام عمارة البيت السكني ليست مقتصرة على معالجة واجهات فحسب. ثمة مشاكل بيئية، وحيزية، ووظيفية وانشائية بالاضافة الى قضايا جمالية، تتطلب من المعمار حلها بصورة مقنعة وبمهنية عالية، لتتواءم مع "حدث" جديد الواجهة المجترحة. لكن الكلام عن ذلك، يتطلب مساحة اكبر من تلك المخصصة لهذه الزاوية. على ان الامر الاكيد في كل هذا، هو ان ظهورعمارة "دار هديب الحاج حمود" في المشهد المعماري العراقي في مطلع السبعينات، كان بمثابة لحظة لافتة وفريدة في ذلك المنتج، وفي منتج العمارة السكنية على وجه الخصوص، وبالامكان، تقدير (وتقييم) تلك اللحظة الابداعية، بكونها إضافة ثرية، ومميزة، ونادرة في عمارة الدارات السكنية البغدادية!
والمعمار "رفعة كامل الجادرجي" الذي ستحتفل الاوساط المهنية والثقافية في "تسعينيته" في العام القادم (هو المولود في 6/12/ 1926 ببغداد)، انهى تعليمه المعماري من مدرسة "هامرسميث للفنون والاعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد الى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)، وانضم لهم، بعد ذاك، معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1959) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في ابي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى التأمين (1966) في الموصل، مبنى اتحاد الصناعات العراقي عند ساحة الخلاني ببغداد (1966)، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة. اصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والانثروبولجي مثل: شارع طه وهامرسميث (1985)، صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو اقلمة العمارة الدولية (1986)<باللغة الانكليزية>، الاخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنيوية الفن والعمارة (1995)، ومقام الجلوس في بيت عارف آغا (2001)، جدار بين ظلمتين (2003)  <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، وقد اصدر اخيرا (2014) كتابا ضخما بعنوان "دور المعمار في حضارة الانسان". سبق وان حاز الجادرجي على جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986). مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في اقامته بين لندن وبيروت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. مصطفى المختار

    مقال مميز لعمل مميز عاشت ايدك دكتور

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

باليت 42 بدايات عام جديد

السُّخرية السريالية ودلالة الأيقون في أعمال الفنان مؤيد محسن

المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

عمارة تلد مسابقة!

دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram