رفعت المرأة يدها بسرعة وأشارت اليَّ وأنا أهم بتصوير اللوحة، وهي تحثني على التوقف عن التصوير، وقد بَدوتُ لها وكأني لم أهتمَّ كثيراً بذلك أو ربما تَباطأتُ في الفهم، لهذا رفعت صوتها وهي تأمرني بشكل حاسم بالتوقف عن ذلك، شارَكَتها في اعتراضها الصاخب، المرأة الأخرى التي تقف على الجانب الأيسر من اللوحة والتي تحركت بخفة من مكانها وكأنها تريد اطفاء حريق أشعَلْتُهُ دون قصد مني. فمن يجرؤ بعد ذلك على تحريك كامرته حيث التصوير ممنوع قرب واحدة من أشهر اللوحات على مرِّ العصور، وهي الغورنيكا. وهكذا توقفت عن ذلك معتذراً بإشارات من كلتا يديّ. بدا لي الأمر مشوقاً وجدياً هنا حيث تقف المرأتان على جانبي اللوحة، تمسكان جهازي اتصال وتراقبان كل صغيرة وكبيرة.
هذه أول مرة في حياتي كلها، أرى فيها حارستين للوحة واحدة، وقد تجمهر الناس حولها بانبهار يشبه القلق والتوتر وهم يحاولون فك طلاسمها ورموزها واشاراتها الرمادية التي بثها بيكاسو على هذه القماشة العملاقة، حتى لتبدو لوحات شاغال القريبة منها وكأنها يتيمة لا يعرفها أحد ولا يهتم بها أو يلتفت اليها الزوار كما ينبغي! نسيت عملية التصوير ودخلت تدريجياً الى تفاصيل اللوحة ومناخها حيث كانت مشاعري متباينة، فمن جهة أتطلع الى الحدث المأساوي والدمار الذي خلفته الحرب، ومن جهة أخرى أرى كل هذا الابتكار والاختزال والتعبير في رسم الأشخاص والتفاصيل والجو العالم للوحة، وقد اثارت انتباهي بعض المفردات التي ألغاها بيكاسو ولم يكملها، وقد بقيت منها بعض الملامح والخطوط ومنها الطائر الذي يظهر في الأعلى على جهة اليسار وقد بقت بعض خطوطه حتى بعد أن أهمله بيكاسو. أنا هنا ليس أمام عمل نادر فحسب، بل تحيطني وتحتويني في هذا المكان لوحة تتفوق على كل الأعمال الأخرى بمجموعة من المواصفات. فإضافة الى حجمها العملاق(349×776 سم ) فهي أهمُّ وأشهر لوحة في القرن العشرين وأعظم لوحة رسمها بيكاسو في كل مسيرته الطويلة وكذلك هي أهم كنوز ومحتويات هذا المتحف الذي تُعلق على جداره كما تعلق النياشين على صدور الأبطال. هي فخر للفن الاسباني بحق، بل فخر للانسانية كلها، الانسانية التي أنجبت فنانا بمكانة ومواصفات وقوة وحضور بيكاسو.
وكما تحول هذا المكان في ثمانينات القرن العشرين من مستشفى بناه الملك فيليب قبل مئتي سنة تقريباً الى متحف مدهش وعظيم، فهو بعد أن دخلته غورنيكا مثل عروس في ليلة زفافها، قد تحوَّل الى قبلة لكل عشاق الإبداع وواحد من أهم متاحف اسبانيا. رسم بيكاسو اللوحة خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بتكليف من الجمهورية الإسبانية في المنفى سنة 1937 بعد أن قصفت الطائرات الألمانية والإيطالية قرية غورنيكا في إقليم الباسك، لتعرض في معرض الفن العالمي الحديث في باريس ثم طافت أوروبا وأمريكا حتى اصبحث رمزاً يشير الى السلام ويقف ضد الحروب ودخان القنابل. وقد أوصى بيكاسو أن تعود الى اسبانيا حين تصبح جمهورية وأن تتمتع بحرية وديمقراطية كافية، وقد عادت بالفعل الى اسبانيا سنة 1981 بعد وفاة الفنان العظيم بثماني سنوات.
اختصر بيكاسو في هذه اللوحة كل تقنياته التكعيبية وأدخل الكثير من مفرداته المعروفة مثل الثور والنساء الباكيات والحصان. لم ينشغل هنا ببهرجة الألوان، بل ركز على حركة الشخصيات وخطوطها المتداخلة التي نفذها بلون أسود ودرجاته من الرماديات التي تكاد أن تُرينا دخان القنابل وتُسمعنا صراخ الناس.
أرى أن بيكاسو قد تأثر في رسم هذه العمل العملاق بلوحة مواطنه الاسباني غويا( الثالث من حزيران)، لكنني لا يمكن أن أنسى أيضاً بأن عمل بيكاسو هذا قد أثر على آلاف الفنانين والكتاب وأصبح أيقونة السلام ومعزوفة الحرية التي تُعزف في كل وقت وأي مكان.
امرأتان تحرسان لوحة مدهشة
[post-views]
نشر في: 11 ديسمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...