TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > امرأتان تحرسان لوحة مدهشة

امرأتان تحرسان لوحة مدهشة

نشر في: 11 ديسمبر, 2015: 09:01 م

رفعت المرأة يدها بسرعة وأشارت اليَّ وأنا أهم بتصوير اللوحة، وهي تحثني على التوقف عن التصوير، وقد بَدوتُ لها وكأني لم أهتمَّ كثيراً بذلك أو ربما تَباطأتُ في الفهم، لهذا رفعت صوتها وهي تأمرني بشكل حاسم بالتوقف عن ذلك، شارَكَتها في اعتراضها الصاخب، المرأة الأخرى التي تقف على الجانب الأيسر من اللوحة والتي تحركت بخفة من مكانها وكأنها تريد اطفاء حريق أشعَلْتُهُ دون قصد مني. فمن يجرؤ بعد ذلك على تحريك كامرته حيث التصوير ممنوع قرب واحدة من أشهر اللوحات على مرِّ العصور، وهي الغورنيكا. وهكذا توقفت عن ذلك معتذراً بإشارات من كلتا يديّ. بدا لي الأمر مشوقاً وجدياً هنا حيث تقف المرأتان على جانبي اللوحة، تمسكان جهازي اتصال وتراقبان كل صغيرة وكبيرة.
هذه أول مرة في حياتي كلها، أرى فيها حارستين للوحة واحدة، وقد تجمهر الناس حولها بانبهار يشبه القلق والتوتر وهم يحاولون فك طلاسمها ورموزها واشاراتها الرمادية التي بثها بيكاسو على هذه القماشة العملاقة، حتى لتبدو لوحات شاغال القريبة منها وكأنها يتيمة لا يعرفها أحد ولا يهتم بها أو يلتفت اليها الزوار كما ينبغي! نسيت عملية التصوير ودخلت تدريجياً الى تفاصيل اللوحة ومناخها حيث كانت مشاعري متباينة، فمن جهة أتطلع الى الحدث المأساوي والدمار الذي خلفته الحرب، ومن جهة أخرى أرى كل هذا الابتكار والاختزال والتعبير في رسم الأشخاص والتفاصيل والجو العالم للوحة، وقد اثارت انتباهي بعض المفردات التي ألغاها بيكاسو ولم يكملها، وقد بقيت منها بعض الملامح والخطوط ومنها الطائر الذي يظهر في الأعلى على جهة اليسار وقد بقت بعض خطوطه حتى بعد أن أهمله بيكاسو. أنا هنا ليس أمام عمل نادر فحسب، بل تحيطني وتحتويني في هذا المكان لوحة تتفوق على كل الأعمال الأخرى بمجموعة من المواصفات. فإضافة الى حجمها العملاق(349×776 سم ) فهي أهمُّ وأشهر لوحة في القرن العشرين وأعظم لوحة رسمها بيكاسو في كل مسيرته الطويلة وكذلك هي أهم كنوز ومحتويات هذا المتحف الذي تُعلق على جداره كما تعلق النياشين على صدور الأبطال. هي فخر للفن الاسباني بحق، بل فخر للانسانية كلها، الانسانية التي أنجبت فنانا بمكانة ومواصفات وقوة وحضور بيكاسو.
وكما تحول هذا المكان في ثمانينات القرن العشرين من مستشفى بناه الملك فيليب قبل مئتي سنة تقريباً الى متحف مدهش وعظيم، فهو بعد أن دخلته غورنيكا مثل عروس في ليلة زفافها، قد تحوَّل الى قبلة لكل عشاق الإبداع وواحد من أهم متاحف اسبانيا. رسم بيكاسو اللوحة خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بتكليف من الجمهورية الإسبانية في المنفى سنة 1937 بعد أن قصفت الطائرات الألمانية والإيطالية قرية غورنيكا في إقليم الباسك، لتعرض في معرض الفن العالمي الحديث في باريس ثم طافت أوروبا وأمريكا حتى اصبحث رمزاً يشير الى السلام ويقف ضد الحروب ودخان القنابل. وقد أوصى بيكاسو أن تعود الى اسبانيا حين تصبح جمهورية وأن تتمتع بحرية وديمقراطية كافية، وقد عادت بالفعل الى اسبانيا سنة 1981 بعد وفاة الفنان العظيم بثماني سنوات.
اختصر بيكاسو في هذه اللوحة كل تقنياته التكعيبية وأدخل الكثير من مفرداته المعروفة مثل الثور والنساء الباكيات والحصان. لم ينشغل هنا ببهرجة الألوان، بل ركز على حركة الشخصيات وخطوطها المتداخلة التي نفذها بلون أسود ودرجاته من الرماديات التي تكاد أن تُرينا دخان القنابل وتُسمعنا صراخ الناس.
أرى أن بيكاسو قد تأثر في رسم هذه العمل العملاق بلوحة مواطنه الاسباني غويا( الثالث من حزيران)، لكنني لا يمكن أن أنسى أيضاً بأن عمل بيكاسو هذا قد أثر على آلاف الفنانين والكتاب وأصبح أيقونة السلام ومعزوفة الحرية التي تُعزف في كل وقت وأي مكان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram