لأول مرة تجبر الدولة العراقية، منذ 2003، على النبش بخزينتها والبحث عن اي فلس أبيض لتستعين به على أيامنا السود في ظل انهيار مالي وإستعار حرب ضروس مع إرهاب عالمي.
بعد أعوام العسل تغادر البيروقراطية العراقية المنتفخة والمترهلة حقبة التبذير الى غير رجعة - ولو مؤقتا طبعا-وتعكف الآن على ملاحقة ديون ومستحقات متأخرة، لدى هذه الجهة او تلك، وتوفير أي دينار يمكن ان ترتق به ثقوب موازنة عام 2016. فمبضع مئات المحاسبين الذين يتولون مهمة رسم الموازنة في وزارة المالية أصبح يتنقل برشاقة هذه الايام ليأخذ من هذا الباب ويضيفه الى آخر أكثر إلحاحا.
من كان يتصور، حتى قبل أعوام قليلة، ان تجرؤ الدولة أو أي مسؤول عراقي على الحديث ولو همسا عن المس بمرتبات الموظفين، وليس المتقاعدين الذين يتقاضون "تفاليس" كل ثلاثة أشهر لاتسد ثمن المواصلات، ولا تداري ذل الوقوف على شبابيك المصارف أيام الصيف.
كل ما لم يكن متوقعاً في السابق، أصبح واقع حال هذه الايام، فلا وظائف مجانية، ولا مخصصات إضافية، لا بل اقتربنا من اجتياز الخطوط الحمر بالعودة الى مستنقع المديونية والقروض التي تهدد بإرتهان اقتصادنا المشوه.
على ان الانطباع الاولي لحجم موازنة 2016 لا يشي باهتمام المؤتمنين على خزائننا، ولا يكشف عن اعتمادهم لرؤية علمية في تحديد أسعار النفط ولا حجم صادراتنا المتوقعة. فبينما كنا حتى وقت قريب ندير أمورنا بموازنات واقعية لا تتجاوز حاجز 80 مليار دولار، إلا ان "برستيج" الدولة الريعية يأبى، على ما يبدو، التراجع عن الموازنات الانفجارية التي سمعنا بها ولم نر لها اثراً يذكر.
لقد بذل خبراء وزارة المالية ومستشارو الحكومة خلال الأشهر القليلة الماضية، جهوداً مضنية لخفض العجز المتوقع في الموازنة. فاوضوا صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بسيط لا يتجاوز 2 مليار دولار، ويستعدون لاطلاق جولة ترويج لبيع إذونات خزينة مع مؤسسات مالية عالمية. وللمفارقة فان الحكومة تعتزم طرح حملة "اكتتاب وطني" في وقت يخشى العراقي من وضع أمواله في المصارف أصلا!
للأسف يغرق المشرعون بتفاصيل الأزمة ويتغافلون أو يتناسون ابتكار مقاربات عقلانية وواقعية لمعالجة تداعيات انهيار أسعار النفط. فكل كل عام يصر النواب على تثبيت سعر النفط بأعلى من معدلات البيع الحقيقية، ويعودون الى ذكر جباية الضرائب وفرض التعرفة متوقعين استيفاء أرقام خيالية من وراء ذلك. لكن النتيجة، ومنذ أعوام، هي مزيد من الاعتماد على إيرادات النفط، وربط مصيرنا بثروة يتضاءل ثمنها يوماً بعد آخر.
هكذا وبأريحية شاهدنا بالأمس نواب الشعب وهم يناقشون كيف يقتطعون 3% من رواتب الموظفين والمتقاعدين من دون أن يرف لهم جفن. صحيح ان من حق الدولة على المواطن ان يساعدها في الخروج من أزماتها، لكن ليس من الصحيح أبداً ان يتم فرض ذلك على المواطن من دون منحه ضمانات تشعره بأنه شريك في صناعة مستقبله.
وكنموذج على الحلول المتاحة، والتي أغفلها النواب، لمعالجة أزمتنا المالية، ما ذكرته رئيس مجلس ادارة المصرف العراقي للتجارة من امتلاك مصرفها ودائع تتجاوز الـ 10 مليارات دولار، الا انها شكت من قوانين بالية وروتين إداري قاتل يمنع من استثمار هذه المليارات وضخها في دورة الاقتصاد العراقي الذي دخل مرحلة الانعاش منذ 2014.
أجزم ان هنالك مليارات في الجيوب المنسية للدولة ، وهناك مليارات اخرى يمتلكها عراقيون من الممكن أن نجتاز بها السنوات العجاف القادمة، لو سمح لها بالعمل ولم يضيق عليها.
مليارات حمدية الجاف
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2015: 09:01 م