علاقة الزمن بالكتابة لم تعد أليفة، ولم يعد الكتاب هو الجليس القديم والشاطر في تسويغ لعبة المعرفة، وفكّ اشتباك المريد بمصادر بحثه عن مايتوق إليه من العلم والحكمة، فالمكر المعرفي صار لعبة مضادة، والسلطة والمقدس والجماعة والمؤسسة صارت لديهم طرقهم
علاقة الزمن بالكتابة لم تعد أليفة، ولم يعد الكتاب هو الجليس القديم والشاطر في تسويغ لعبة المعرفة، وفكّ اشتباك المريد بمصادر بحثه عن مايتوق إليه من العلم والحكمة، فالمكر المعرفي صار لعبة مضادة، والسلطة والمقدس والجماعة والمؤسسة صارت لديهم طرقهم السرية لاصطناع مايجاور مكتبة التاريخي والسياسي والديني، ومايهددهم معا..
ستراتيجيات الكتاب وتداوله تبقى- رغم فوبيا هذه العلاقة- والتباساتها غريزة فائقة، فيها الكثير من الغواية، تلك المسكونة بشحنات الرغبة، والهوس بالبحث والترقّب والتلصص، والإنشداد الى تسويق فكرة الرسائل المُهذّبة والمشاغبة والمُفارُقة، وإباحة القبول بنص اللذة ونص التأويل..
الكتاب رفيق معرفة، وكاشفها، وهو أيضا رفيق محنة، فهو الوجه السيميائي لتدوين الوجود، واستكناه سرائر معانيه، وصانع الخفّة في نزع الكثير من وطأة المكابدة والقلق والخوف، فضلا عن كونه الدافع لاصطناع الطرق المُتخيَّلة لاستحضار معنى الوجود، ولذّته وكشف عوالمه، وتَلمّس مافيها، بدءا من مرحلة تدوين الحاجات والأسئلة الأولى في الكهوف، وصولا الى مقاربة أسئلة الوعي الشقي في المدينة، وانتهاء بالتماهي مع أسئلة المعرفة المعقدة، تلك التي حوّلت الكتابة الى شفرات، وحوّلت الكتاب الى خطاب، ومادة في التداول التكنولوجي، والتي أفقدت الإنسان الكثير من بطولته الأنطولوجية، رغم ماتبدت فيه من سهولة و فضائحية، وتمثّلا لكل معايير تغيّير عادات الكتابة القلمية، وطردها خارج ألواح التدوين وغابات الورق، والتي إنتهت عند وضع السياق النمطي للكتاب وصناعته اليدوية والحسّية داخل لعبة من التقانات والمهارات الضاغطة والخارجة عن السيطرة.
الرهان على القارىء هو المشترك الجامع في صناعات الكتاب، إذ لايمكن تجاوزه وإهماله وإخراجه من اللعبة، فهو كائن التلقي والتفسير والتأويل، وصاحب الحظوة في تلقي ما يتساقط من لذّة هذه الصناعة، وتجاوز ماكانت تهجس به حساسية الورقة، عبر سطحها الصقيل، أو عبر ملمسها الأنثوي، أوبشغف مايمكن أن تُشكّله، أو ما تشترطه من طقوس إفتراضية للقراءة.
في معرض بيروت العربي الدولي بنسخته 59 بَدَت تلك العلاقة وكأنها أكثر إشهارا، وأكثر تعبيرا عن أهمية توطيد الهيكل الصناعي للكتاب، والمحافظة على صورته وطرائق عرضه وتقاليد تسويقه، فضلا عن الإهتمام ب(برستيج) القارىء(العضوي) الذي يلاحق هذا الكتاب في جدّته وإثارته، ويجاهر بواقعية حيازته وقراءته، والإحتفاظ به في المكتبة أو على الطاولة، أو عند سرير النوم..
المهم، أن الكتاب يواصل لعبته الفادحة في الحضور، وفي الخروج العلني من فسحة الفرجة الى فضاء الاستعمال، والتموضع داخل فضاء المعرفة، والاحتفاظ بخصوصية التحفيز الشرائي رغم كل الرعب الاقتصادي الذي يهدد السوق والعائلة، وأن يكون أكثر ندّية لكل طرائق التكنلوجيا الرقمية وسحرها وسرعة احتوائها..
البعض من السياسيين والإقتصاديين ظل أكثر اغترابا عن الكتاب، وربما يثير أسئلة(برغماتية) حول تضخيم جدوى صناعة الكتاب، وحول قيمتها الانتاجية والتسويقية، وحول علاقتها بالتقانات التي غيّرت عادات القراءة، وبدلّت يوميات القارىء وسط عالم يمور بصراعات لايحتاج محاربوها الى الكتاب والقراءة والشغف قَدْر حاجتهم للأوهام والأسلحة والوصايا..
رغم كل هذا الرعب والتهديد والتفليس و(سوق) الكتاب وناشروه يصرّون على وضع الكتاب خارج لعبة المزايدات والانتهاكات، وضمن سياق ثقافي وتجاري، فيه الكثير من التنافس المعرفي، مثلما فيه الكثير من الرومانسية التي تتيح للجميع تلمّس المتعة والفرجة والتمرئي بشغف الجمال الذي يُضفي حياة تمشي في سوق الكتابة..
هذا التموضع ليس مخادعة، وليس إنحيازا ل(الأنتيكا) الثقافية التي يمثلها الكتاب، بقدر ماهو تعبير عن وجود شكّل آخر للحياة، وفضاء آخر للتجارة الأقل بشاعة، إذ يأخذنا سحر الكُتب الى ملاذاته وغواياته، والى كل التحولات التي تمسّ صناعته، وتحرّض على تغيير أنماط قراءاته، وآليات نشره، وعلى السياقات التي تخصّ آليات عرضه وطلبه..
مانجده في عالم معرض الكتاب البيروتي يعكس لنا الكثير من الواقع، ففيه نقائض المرجعيات التي تنشر الكتاب، وفيه أيضا دور النشر التي تسعى الى تسويق الكتاب المتخصص في السياسة والفكر والدين، والكتاب الإبداعي، والكتاب اليومي، والكتاب الأيروسي، مثلما يعكس لنا عالم الكتب الكثير من صراعات الرعب التي يعيشها الواقع العربي، تلك التي انعكست على توصيف الكتاب بشكل خاص، وكذلك على صناعة الجمهور الذي يمكن كسبه والرهان عليه. وبقطع النظر عن المردود المادي لصناعة الكتاب، تبقى خصوصية المعرفة وفرادتها، ورمزيتها، وقوة تأثيرها في صناعة الرأي العام مسألة مهمة وخطيرة، وتحتاج الى الكثير من التخطيط والمأسسة، والمزيد من ربط ستراتيجيات هذه الصناعة بالتعليم والتنمية، فلا توجد ثقافة خارج التعليم، وخارج التنمية، مثلما لايوجد كتاب خارج ضرورات القراءة...
الإصرار على تنظيم معارض الكتاب في العالم العربي سيظل رهانا محفوفا بالمخاطر، لأن الكثير من عناصر استهلاك هذا الكتاب لم تستوف بعد شروطها وأهليتها، أو ربما هناك تَعمّد في تغييبها، فضلا عن تضخم ظاهرة الأمية والجهل والتخلّف بكل وجوهه، هناك إصرار عند البعض على ترويج كتب العنف والكراهية الثقافية والهوياتية، إذ تحوّل الكتاب الى وصية، والى خُطبة، والى ظاهرة لتكريس رعب الخطاب الثقافي والديني، والباعث حتما على( مديح الكراهية) كما يسميها خالد جابر، تلك التي تقوم على توليد العنف الروحي، وشهوة التوحش، والعديد من عصابات الحروب الأهلية، والتي أسهمت في تعطيل عمل منظومات التنمية والتعليم، وتكريس ظاهرة الكتاب الواحد، وعزل فاعلية التنوع التي تقتضيها صناعة الكتاب عن أداء وظيفتها، لأنها ستكون تحت هذا التوصيف صناعة ضالّة، ومروجوها سيكونون كفرة وزنادقة ومارقين عن تابعية الملة والأمة.