القسم الثاني
في كتابها الأحدث المعنون ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة ) الذي نوّهت عنه في المقالة السابقة تردّ ( ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين ) على النقد القائل بأن الفلسفة لا تشهد ارتقاءً مماثلاً للارتقاء المتسارع في الحقول الأخرى ، كما تردّ على الذين يروّجون لهذا النقد بالمثال القائل أن أفلاطون يعدّ شخصية مهمة ومؤثّرة في الفلسفة كما كان على الدوام خلال العقود المنصرمة وهذا ما لا يحصل في العادة مع الشخصيات في الحقول المعرفية الأخرى التي يطالها الوهن مع مرور الوقت . فتجيب بالقول أنّ ثمّة قناعة راسخة لدى أوساط الأكاديميين والعامّة أن الفلسفة لا تملك الوسائل اللازمة لتوفير إجابات للمشكلات التي تعترضنا ، وأن كل ما تفعله هو أن تكتفي بوضع المشكلات في إطار مقبول وتنتظر وصول العلماء إلى الإجابات المقبولة ، وثمة - من ناحية أخرى - ميل لدى بعض العلماء يمكن وصفه بكونه "ميلاً مضاداً للفلسفة" إلى حدّ أنهم باتوا يأنسون لفكرة التبشير بقرب موت الفلسفة . تمضي غولدشتاين بالقول أننا شهدنا الكثير من معالم الارتقاء الفلسفي ولكنه في العموم ارتقاء عصيّ على المعاينة المباشرة ، ويكمن السبب وراء هذا التناقض الإشكالي أننا نستخدم الوسائل الفلسفية ذاتها في الإطلالة على العالم الذي نشهد ارتقاءه في كافة الحقول المعرفية ، وفي العادة يكون من الصعب تماماً أن نشهد الارتقاء في وسائط الرؤية بل يحصل أن نكتفي برؤية الارتقاء فيما نحن نطل عليه !! . أما بشأن أفلاطون فتصرّح غولدشتاين : "أرى أن الرجل كان سيطاله العجب وتتملّكه الدهشة لو عرف بالمديات التي ارتقينا إليها اليوم ، لا في المستويين العلمي والتقني فحسب بل في الحقل الأخلاقي ذاته الذي يعدّ ميدان اشتغاله الأوسع والأحبّ إلى نفسه."
ثم تضيف قائلة أن أفكاراً مثل : الطبقة ، الجندر ، الدين ، الإثنية ،،، تبدو غير مؤثرة متى ما تعلق الأمر بالحقوق الفردية التي لها الاسبقية على ما سواها ، ولكن الأمر مختلف بقدرٍ ما مع افلاطون - فقد وضع الرجل عبارة في ( جمهوريّته ) تستبطن مفهوم العدالة و المساواة بالقول أن على كلّ فرد في الجمهورية أن يعامل جميع الأغريق الطريقة ذاتها في المعاملة ولكن لم يكن ليخطر على باله : هل ينبغي لهم أن يعاملوا البرابرة ( غير الإغريق ) بذات الطريقة ؟!! . إنّ من المدهش تماما معرفة كم نحتاج من وقت للارتقاء في أي حقل معرفي ولكننا نرتقي في نهاية المطاف ، وفي العادة فإن أفكارنا الفلسفية وما يترتّب عليها من مواضعات هي التي يطالها الارتقاء أولاً ومن ثم تتبعها الفعالية البشرية والحراك الاجتماعي .
" الفلسفة لن تموت " : هذا ماتؤكّده غولدشتاين ، لكن هذا لا يعني أبداً أن شعبيتها وقدرتها على استثارة التساؤل والاستقصاء لم تنحدرا عمّا كانتا عليه من قبل بعد أن أصبح طلبة كلياتنا اليوم أكثر ميلاً للنفعية الطاغية والتطلعات المادية المتغوّلة ، كما صاروا أقلً تعلقاً بالرؤى الفلسفية التي كانت تفجّر الثورات من قبل ، وأصبح شائعاً أن نرى الطلبة يلهثون وراء وظائف عالية الدخل تؤمّن لهم الثراء السريع وما عادوا يفكّرون بشيء سوى ذلك.
يتبع