TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قلتُ لهم ما يتوجبُ على أخٍ مثلي

قلتُ لهم ما يتوجبُ على أخٍ مثلي

نشر في: 19 ديسمبر, 2015: 09:01 م

قبل أن أُنادي عليك، وقبل أن تُحدث أبقارُ الفجرِ الجَلَبة في النخل، كنتَ شققت في الحائط مخرجاً لك وخرجت، هو ذاك الشقُّ الذي تسمّيه باباً. وما هو بباب خشب ولا صفيح. ولا أظنك أغلقته خلفك، ستغلقه على ماذا؟ وعلى مَن؟ كنت تركته مواربا لتدخل منه روائح سرور الأرض بدخولها في الماء، ولتلتئمَّ عند عتبته الريحُ الأولى وأزهارُ الدُّفلى، ولتدخله التباريح. قلت لي: يلله، لم يبق بين أيدينا من الساعات ما يكفي، مع أن الفجر كان بأوله.  
شددتُ حزامي مسرعاً وبخطف مثل خطف البرق نزلتُ المُسناة، أسبغت وضوئي على مكرهة من البرد، ووقفت ذليلاً امام ربك، أقمت صلاته، وقلت له ألا يحرمني منك، فأنت عضدي، وأنت دليلي في الحلك والظلموت، ومن فجٍّ عميق في بقية الفجر جاءني النداء، أنْ أسكُن انت وصاحبك النخل، ولا تبرحا  شقيقين، متحابين. لا تستبدلا مسرات الفاقة والعوز بهميان الذُّل والهوان. وكونا بين البساتين إخوانا، كونا مثل غصني كرم ائتلفا والتفا حتى لم تكد تبدو من الأول نهاية الثاني، كونا كحقلي لوبياء غمر أرضهما الماء فأينعا وأورقا وأزهرا وأثمرا. هل أطلت الوقوف بين اليدين السماويتين ساعتها، لا أذكر، لكنني رأيتك مصغيا معي للنداء ذاك، وحين علمت بانك سمعتهُ ووعيته، تبسمت في وجهك وضحكت. لقد كنتُ معك مثل كرمة بعشرات الأغصان ومثل اللوبياء أطوقك كلما غالتني غائلة.    
كان الخريف عند بدايته، وكانت الريح متأنية، فهي دافئة في ساعة من النهار، لكنها باردةُ في غالب ساعات الليل، والموسم مازال عند مدخله، نحن في نهاية أيلول، لم نحرث بعدُ الأرض التي قلنا سنزرعها للشتاء، بذور الطماطم والباذنجان والخيار بصررها مرزومة، معلقة في أطار الخصّ. ومن خلف أجمة الآس والرارنج، حيث يقف عصفور وحيد، صحتَّ بي: تعال، فانبتُّ مسحاتي لصق مسحاتك، وأخذنا بأطراف تلك الأرض نُنقصها ركلا وترابا مقلوبا وغبارا، ابتدأنا بحافة النهر الذي كريناه بالأمس، انت على يمينه، تكاد مسحاتك تلامس الماء، وأنا على يسارك، أتكفل عنك قطَّ أصول النخل، وفك ألغاز تشابك العنب بالليمون والتوت. هو دأبنا، فالنخلة ضالة الفلاح ومدّخر قوت أيامه وشهوره. هل أتممنا رصَّ ما انقلب من الأرض بيننا، هل وفينا النخلة حقها قطَّاً وتدثيراً وتسميدا؟ أظننا كذلك، وإلا ما معنى هذا الذي يتصبب من جبهتك ومن جبهتي؟
انت اشتريت الراديو الفليبس من سوق البصرة القديمة، وأنت صعدت بأعمدته السطح وانبتَّ سلك الهواء، ثم مررتهُ من ثقب في الباب حتى أدخلته فيه، ومع فلفل كورجي وحسن خيوكه ورشيد القندرجي كنا أمضينا الليالي الطوال، سهرانين، مستمتعين، ومنه فرحنا بصعود نجم ستالين والجيش الأحمر، ومنه عرفنا نهاية الحرب الكونية الأخيرة، لكنك سرعان ما تخليت عنه واشتريت بثمنه صندوق الثلج الخشبي بصنبوره النحاس، وبفضلةٍ من نقودك اشتريت مسحاتك الجديدة. اليوم نحتفل بمضيِّ السنوات على شرائك لها، هي افضل من مسحاتي والله، مهيجرانية أصلية، صاغها الحداد مخصوصة لك، أما انا فقد اشتريتُ مسحاتي الأخيرة من السوق، مثل أيّ مسحاة يستخدمها فلاح فقير، لكنك لم تهزمني في عمار او كري، كنت صنوك الذي لا بد لك مني حتى وإن ازددتُّ لحما وشحما وبدوت اليوم أكبر.
صارت الازهار الصفراء خياراً واحمرّت الطماطم وصار الباذنجان اسودَ بين اخضرين، أنا أنشغل بماكنة السقي من ساعة، أدير عجلتها وأنت تملأ الزنابيل بالأخضر والأحمر والاسود، انا أترع السواقي وأذهب بالماء إلى هذه وتلك، أروّي أصولها وأفيض على ما تشقق من الأرض تحتها، وأنت تخيط ما امتلأ من أكياس الجنفاص والسلال. صحت بي: لم يبق من الشمس التي حولنا إلا القليل، فهرعت اليك، أحمل عنك الغِلات إلى حيث القنطرة الأخيرة، انحنى ظهري وضمر ساقاي وانا انقل عنك الاقفاص والاكياس. لا عليك ستبدو بحال افضل في الغد، أعلم أنك كنت تعاني من آلام في ظهرك، مذ سقطت من النخلة، قبل سبع سنوات، كنتُ سقطتُّ مثلك، من قبل، لكنَّ نخلتي لم تكن شاهقة مثل نخلتك، كنت وحدي آنذاك، ووحدي لعقت ما أصابني، ونهضت من لحظتها، دونما ألم من ذلك.
صليتُ العشاءَ في المسجد، لبست دشداشتي البيضاء واعتمرت يشماغي الأحمر، ومن قنينة فيها ماء ورد محلي أخذت زينتي إلى هناك وذهبت، لم أعثر على نعالك عند الباب، ولم أجدك بين المصلين، حين سلّمتُ عن اليمين وعن الشمال. قلت لعلك كنت أكثر مني تعباً، لعل الليل عندك كان احلك من الذي عندي، لا عليك فقد وجدت العذر لك بين الناس، قلت لهم ما يتوجب على أخ مثلي قوله عنك، فكـن بخير.  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram