لم تكن السنون التي مرت سوى لحظات من زمن متسارع نشتاق اليها فأقول الله ما أحلى أيام زمان. ولم ادر لماذا العراقي فقط يشتاق للماضي ويشعر بالارتياح والوداعة معه حيث ترتسم الابتسامة. وهكذا فقت على صوت رجل بملابس خليجية داخل سيارة تحمل تابوتا جعلنا نرتعب م
لم تكن السنون التي مرت سوى لحظات من زمن متسارع نشتاق اليها فأقول الله ما أحلى أيام زمان. ولم ادر لماذا العراقي فقط يشتاق للماضي ويشعر بالارتياح والوداعة معه حيث ترتسم الابتسامة. وهكذا فقت على صوت رجل بملابس خليجية داخل سيارة تحمل تابوتا جعلنا نرتعب منه.. أجل فان الناس لم يألفوا هذه المشاهد وكنا نادرا ما نرى تابوتا أو موكب تشييع ينادي لا اله الا الله حيث يمشي العشرات بل المئات أحيانا منكسي الرؤوس ألماً وأسفاً.
- السلام عليكم. فين بيت بدر شاكر السياب؟ رحت للمعقل وطلعتلي عايلة متعرفه وجيت هني اسأل عليه.
- وعليكم السلام. آسفين عمو والله منعرفه وماكو بيت بهالاسم بهاي المحلة...
لأكثر من خمسة عقود، يدور هذا الحوار البسيط مع هذا الرجل في أعماقي ولازالت قسمات وجهه مرسومة في مخيلتي. أجل ومن يعرفه ونحن مجموعة من طلبة المدارس متجمعين قرب باب جامع السيف في البصره القديمه. السياب.. بدر شاكر السياب.. لا أب.. لا عائله.. ياترى هل اقوم بدفنه وحدي؟ تساءل الرجل. لا لا مستحيل. هذا مستحيل.. ترجل من سيارته والتف حوله بعض الرجال وحملوا الجنازة وأدخلوها في جامع السيف حيث التف حولها الباكون فوجدت نفسي ابكي بحرقة ليست عليه ولكن لأنني اشتقت لأبي الذي لم أحضر جنازته.. هرولت مسرعا الى البيت واخبرت أخي الكبير بما حدث فأسف لذلك ولعن الظروف التي تحارب الشاعر والقاص والعالم وأصحاب الكفاءه. أجل هذا الانسان لا بيت له فقد فصل من دائرته لأسباب سياسية وتوفي في المستشفى الأميري في غرفة رقم واحد بعهدة الأمير انذاك.. ومرت السنون واذا بالسياب يقف منتصبا أمام ساحل شط العرب طيلة الثماني سنوات من عمر الحرب بيننا وبين جارتنا ايران. كانت الشظايا تملأ جسده وكانت احداها قد أصابت الكتاب الذي في جيب سترته المتهدلة فمزقته. تطلعت اليه وتذكرت حواري مع النحات المرحوم محمد غني حكمت حول التمثال حيث رسمت خطاً وهمياً من مرفقه الى عظم الحوض فوجدت انه يلتقي اسفله أو عليه بالضبط فرد عليّ محمد غني وقال بأنه نبه النحات نداء كاظم بهذا الخطأ والظاهر انه لم يستجب له.
تطلعت اليه فوجدت الغبار يعلوه بينما تجمع الاطفال حوله وقررت ان اكتب قصة عنه خاصة وانني عرفت الشخص الذي نقله من الكويت الى البصره حيث واراه التراب في مقبرة الزبير ، وكانت فرحتي عظيمة عندما تسلمت رسالة منه يشكرني فيها على تذكره واهداء قصتي له عرفانا مني اليه وقد شكرت صديقي الشاعر حاتم محمد الصكر الذي اصبح في وقتها رئيس تحرير مجلة الأقلام التي تصدر من وزارة الشباب انذاك والذي نصحني بالكتابة الى اتحاد الادباء في الكويت لانه أصبح رئيسا له. ياترى لمَ هذا الاضطهاد لأصحاب الرأي؟ هل الخوف منهم أم شعور بالنقص؟ ولم يصنع نصب لشاعرنا لولا تحوله الى الفكر القومي وتخليه عن معتقده الذي آمن به سابقا، وقد قرأت له حوارا قديما مع ميشيل عفلق نقلته مجلة افاق عربية في وقتها وهذا في رأيي قد شجع فيما بعد على نصب تمثال يخلده. ولكن ماذا عن المئات من المبدعين الذين حوربوا واسقطت الجنسية العراقية عنهم مثل الجواهري. اتمنى صادقا على اتحاد الادباء ان يتذكر أكثر مبدعينا الحاضرين والغائبين كوفاء لمن عشق وطنه ومات غريبا أو سجينا أو محروما...
سلاما يا بدر بن شاكر ((قصة قصيرة))
"إلى من حملك بيوم مطير تجوب شوارع البصرة
الى الأنسان علي ألسبتي"
كعادته، كان منشغلا بشيء ما حوله .. هذا طفل يحدق في عينيه، وآخر يركز على أذنيه وثالث يتعجب للحذاء الكبير الذي يلبسه. وهناك طفل تسلق صدره ماسكا بيده اليسرى الطرف السفلي لربطة العنق العريضة و بالأخرى كتابا مندسا بجيب معطفه المتهدل ، محاولا سحبه دون جدوى . تقدمت مبتسما مادا ذراعي نحوه فرمقني بنظرات حلوة بريئة.
- خذ هذا لك .
- لا.. أريد هذا .
- وما الفرق ؟ انه نفسه. اجل يا صغيري.. نفسه . نزل مسرعا وتناوله فرحا وذهب. وكنت اعلم ان بدرا لن يرفض طلبا لصديق او رجاء لغريب. رفعت رأسي فبدت عيناه محدقتين وكأنه يريد أن يقول شيئا.
- يا بدر سلاما.. يا بدر سلاما.. جئت إليك. دمي كدمك ومياه الشط التي خلفك تسري في عروقي. لوحت جبهتي الشمس وارتسمت خضرة النخيل في عيني كما ارتسمت في عينيك.. يا بدر سلاما. يا بدر سلاما. وكانت خطوات خفير السواحل الجنوبية متسارعة نحوي:
- أراك تجهل مناجاة بدر !
- أجهل !
- أجل
- قل لي إذن كيف أناديه .
همس بأذني ثم اختفى بالظلام مودعا.
"يا مطر يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطر يا شاشا
عبر بنات الباشا"
ارتخت ذراعاه وتدلّتا وبدتا متعبتين وازداد بريق عينية ، فبان أثر دموعه على وجنتيه واضحا. ولم اشعر بتلك اللحظة التي نزل بها بدر من منصته فبدأنا بالعناق الحار وقد وضعت رأسي على صدره وأحسست بنبضات قلبه المضطربة.
- ناديتك وأنت وسط الحشود .. وبأعلى صوتي ، لكنك لم تسمعني، فقد طغى صوت الدمار وبكاء الأطفال على صوتي وامتلأ جسدي بشظايا حارة فاقت بعذابها كيّ البدوي المرسومة بقاياه على ساقي، وتغير لون الماء الذي حولي، وعلمت انك تخندقت في "جيكور" وقد تعفرت جبهتك بترابها فأيقنت أنني لازلت أحيا. تذكرت حضن أمي وحب
- جدتي ووقار أبى الذي لم احضر جنازته وكان صوت إقبال يناديني . صرخت لأجلها .
- مرارة قاسية دهش لها أيوب لكنك لم تجزعي. سيبت وحيدا كالمسيح جر في المنفى صليبه، انزف وأنت تلعقين جراحي وتلهثين….
"إقبال يا زوجتي الحبيبة
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه…"
- يا ليتني ، قال بدر، أعيش لأسفح نفسي على التراب واسمع ذلك الصوت بعتمة الليل وصحوة النهار: لقد حضر الغد ولن يبكيك ليل فقد ولى الظلام ، وتلك الأيام التي حملوك فيها بيوم مطير تجوب شوارع البصرة. هذا الذي صرخ بصوت مسموع:
"الشمس اجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق"
ذلك الصوت الذي تحول إلى ضحكات أطفال تعودوا زيارتي كل يوم لاستعارة كتابي وكنت في سري خجلا فقد انصهر بجسدي ولن يعبث به أحد بعد اليوم لكنهم سيلهون بأذني ويقفون على ذراعي اليمنى المشوهة.
- مهلا يا بدر.. أقلت مشوهة؟
- انقل عتابي لمن صنعني ، فقد قبلت بهاتين ، وأشار لأذنيه، فهما من صنع ربي، لكنني لا احب ذراعي . قل له أن يعيد تجليد كتابي ويرقع ثيابي وأن…
- ولكن قل لي يابدر كيف هي الأمور الآن؟
- الأحبة يتحاورون قربي والشيوخ يستظلون بظلي ، فانظر لوجوه الناس والماء خلفي. ما أحلى ضحكات الأطفال..
- وهل تشكو من شيء يا بدر؟
- نعم . فأنا بحاجة لمن يزيل الغبار عني…. بحاجة إلى المطر.
- مطر
- مطر
- مطر