TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > المتخيل الشعري عند أمل دنقل

المتخيل الشعري عند أمل دنقل

نشر في: 15 يناير, 2010: 05:02 م

عبد السلام المُساويللصورة الشعرية وظيفة تعبيرية بالأساس، لذلك فهي مشحونة بالمشاعر والأحاسيس والدلالات، وهي صياغة فنية تمنح المعنى المجرد شكلا حسيا يمكّن حواس الإنسان الظاهرة والخفية من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا عن طريق تلقّ مفتوح يتجدد باستمرار، كما تنص على ذلك المناهج الحديثة كالأسلوبية والسيميولوجيا وجماليات التلقي.
وإذا كان القدماء قد ركزوا مفهوم الصورة الشعرية في منظومتين بلاغيتين هما المشابهة والمجاورة، اعتمادا على استقصاء الأوجه البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل.. فإن المحدثين جعلوا المفهوم مواكبا للفتوحات الإبداعية المستجدة بما عرفته اللغة الشعرية من إبدالات وتحولات.ومعظم التعريفات الحديثة أجمعت على تفرد الصورة الشعرية بطابع الإبداعية والخلق القائم على التقريب بين المتنافرات في سياق توحد عناصرها المتباعدة في بوتقة شعورية واحدة. وحسب صبحي البستاني، فإن الصورة الشعرية ((تخترق الحدود المرئية لتبلغ عمق الأشياء، فتكشف عما تعجز عن كشفه الحواس))  وإذن، فهي تقنية لغوية خاصة تضطلع بوظيفة إنشاء علاقات جديدة بين كائنات العالم وأشيائه، وذلك بنقل المعاني من الحياة إلى اللغة. وهو نقل يعتبره صلاح فضل محتاجا إلى جسارة شعرية (2) أي إلى قدرة إبداعية كبيرة تتمكن من بناء علاقات جديدة تدفع بالمتقابلات إلى الحد الأقصى من الائتلاف والتعايش الدلالي.إن الصورة الشعرية ليست إطارا أو قالبا جاهزا تُصبّ فيه المعاني لتأخذ أبعادا جديدة، كما أن علم البيان بطبيعته التقليدية لم يعد قادرا على استيعاب توجهات الصورة الشعرية المعاصرة، فلا بد من تحيينه وتعضيده بإواليات مستحدثة لعله يكشف عن الجغرافيا الجمالية التي أضحت الصورة الشعرية تأوي إلى أفيائها. لذلك نرى أن قواعد البلاغة تظل مفتوحة دائما على التجدد والمسايرة اعتمادا على المتحقق النصي الإبداعي. وقد كانت القواعد تستخلص دائما من النصوص، وفي هذا الاتجاه ينبغي أن يسير أي توجّه منهجي يروم تحليل الصورة في الخطاب الشعري. ثم ((إن البلاغة المعاصرة ينبغي ألا تنبني من توجيهات تؤدي إلى صناعة وجه بياني، بل ينبغي أن تدرس هذا الوجه من زاوية نفسية، وتعمل على الكشف عما يعتمل داخل روح القارئ في اللحظة التي يدخل إليها هذا الوجه، ويتحلل داخلها منميا فيها طاقة الإحساس. وباختصار: بحث طريقة عمله ليحدث فينا الشعور بالانبهار الذي هو أثر ناتج عن العمل الفني.))  قد يكون حصر دراسة الصورة الشعرية في تجربة شاعر واحد أنجح بكثير من التوزع على تجارب مختلفة، لأن ذلك من شأنه أن يتيح للدارس مراقبة الصيغ اللغوية المتنوعة المعبر بها من قبل هذا الشاعر، ومن ثم يسمح ذلك باستخلاص أنظمة بناء الصورة الشعرية لديه، والوقوف على حدودها التعبيرية الممكنة مع قياس وظيفتها وتأثيرها، بالرغم من أن الصورة الشعرية ((تستعصي على كل تحليل لأنها في الحقيقة ليست بنتا شرعية للعقل فقط، بل هي نتاج يتداخل فيه الحدس والعقل والانفعال ومركبات غريزية منبثة في الضمير العام للعقل البشري..))  وهو استعصاء ناشئ عن غموض فني ضروري ومقصود، لا يلغي إمكانية تحليل يروم بناء انسجام ما تفرق من أجزاء، وما تقابل من دلالات. وهذا التحليل ينبغي ألا يكتفي بالوقوف عند حدود الأوجه البلاغية (تشبيه، استعارة، مجاز مرسل... )، فهذه الحدود حسب رجاء عيد ((قد تهدمت، لأنها حدود اصطنعها منطق التطابق مع الواقع الخارجي للأشياء بدون مراعاة لمنطق الواقع الداخلي الممتد عبر حركة النفس وخيالها الخبيء والذي يقيم علائق بين الأشياء لها شكولها اللامتناهية.))  هكذا، إذن، تحتل الصورة مكانا أساسا في تكوين شعرية النص، إذ عن طريقها يتم التمييز بين الكلام العادي والكلام الفني بفعل خلخلتها للمألوف، وقدرتها على رفد اللغة بالدلالات العميقة التي لا سبيل إلى اختزالها في أية قراءة محتملة. لقد اعتبرها جان لوي جوبير J.L. JOUBERT نتاجا للنظرية السوريالية حول الإلهام. كما رأى فيها العلامة المميزة للشعر المعاصر (6) . أما أندريه برتون A. BRETON فقد عرفها اعتمادا على تحديد بيير ريفردي Pierre REVARDY الذي يقول: ((الصورة نتاج محض للفكر، إنها لا تـولد من التشـبيه ولـكن مـن التـقريب بين حقيقتين متباعدتين. وكلما كانت العلاقات بين الحقيقتين موضوع التقريب متباعدتين، كانت الصورة قوية ومحققة لشعرية عالية.))  قد يكون اوكتافيو باث O. PAZ أكثر الشعراء تدقيقا في فهم طبيعة الصورة، وما تنطوي عليه من قدرات هائلة في جعل الكلام منفتحا لمعانقة التجربة الفنية للشعراء، حيث يقول: ((إن التجربة الشعرية يتعذر تبسيطها في الكلام، ومع ذلك فالكلام هو الذي يعبر عنها. إن الصورة توفق بين الأضداد، ولـكن هذا التـوفيق لا يـمكن شـرحه بكلـمات، إلا أن كلـمـات الصـورة كفّت عن أن تكون مجرد كلمات... الصورة، هـكذا هـي مـلاذ ميـئوس مـنه ضـد الـصمت الذي يخـيم علـينا كلـما حـاولنا التعبير عـن التـجربة الـمرعبة لـما يحـيط بنـا ولمـا نوجـد علـيـه.))  نستنتج من هذه التحديدات أن لغة الصورة الشعرية ليست لغة عادية، وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات؛ أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشر، بل غدت في ا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram