القسم الثالث
في سياق الإطراء على الفلسفة ودورها المتعاظم وسط لجّة النزعتين : المادية المتوحشة والعلمية المتطرفة ، كتب البروفسور ( كلانسي مارتن ) - أستاذ الفلسفة الذي يعمل رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة ميسوري الأمريكية - مقالاً رائعاً تناول فيه ما يراه الدور الذي ينبغي أن تنهض به الفلسفة في عصر الكشوفات العلمية الخارقة وطغيان النزعة المادية المتغوّلة ، وناقش فيه أفكاراً وردت في أحدث كتاب للفيلسوفة والروائية ( ريبيكا غولدشتاين ) الذي أشرت إليه في القسمين السابقين . يتشاطر الاثنان النظرة ذاتها في أن الفلسفة عصية على الاندثار وأن مجال عملها واشتغالها يختلف عن مجال العلم - أو أي مبحث معرفي آخر - لكنما يعزّز أحدهما الآخر ويثريه برؤية كاشفة حتى صار بعض الفلاسفة يدعون إلى العجب لفرط ولعهم في استشكاف الإنجازات العلمية الكثيرة . و لعل مثال الفيلسوف الأمريكي ( مايكل دينيت ) هوالمثال الأكثر نموذجية لأن يكون أفلاطوناً من طراز ما يتلاءم مع عصرنا هذا .
" ..... وسط فوضى شاملة وزعيقٍ عن انحدار الدراسات الإنسانية والفلسفية كتبت الفيلسوفة والروائية والأستاذة الجامعية ( ريبيكا غولدشتاين ) كتابها المعنون ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة ) وكانت واثقة من أنها ستجد قرّاءً لكتابها من أؤلئك التوّاقين لاستشارة الفلاسفة في تفكيرهم حول معنى الحياة والطريقة المثلى لعيشها" -هذا مايكتبه البروفسور مارتن في مقالته السابقة ، ثم يضيف "تبدو غولدشتاين في غاية الحكمة عندما لا تعدّ استمرارية الوهج الفلسفي أمراً مفروغاً منه في ثقافة أضحت النظرة المادية طاغية فيها على مستوى العالم بأكمله ، ولست أقصد هنا بالنظرة المادية في الثقافة الكونية تلك الإحالة المباشرة إلى " حب المال والتملك المتغوّل" في عالمنا وما ينبثق عنهما من نتائج كارثية فحسب ، بل أقصد وعلى نحو محدّد أن الكثرة من الناس أصبحت ترى في القوانين العلمية جواباً لأسئلتنا كلّها وهو ما يمثّل شكلاً من الطغيان العلمي يعادل طغيان التملّك و الاستحواذ . إن الدافع وراء عمل غولدشتاين الذكي والممتع يعدّ تنقيباً معرفياً في التساؤل الإشكالي التالي : بعد أن صرنا نمتلك العلم فهل بقيت من حاجة ما للفلسفة ؟ أليس العلم هو ما "يصنع لنا خبزنا" ؟
تذكّرُنا غولدشتاين دوماً أنّ " أن السؤال عن كيفية عيش حياة ذات معنى هادف مسألة تختلف تماماً عن فهم نظرية النسبية الخاصة أو نظرية الارتقاء الداروينية " ، ثم تعيد التأكيد بشأن ما كتبه الفيلسوف الدانماركي ( سورين كيركيغارد ) : " مهما كانت عظمة ما يتعلّمه أي جيل من الأجيال السابقة له فليس باستطاعته أن يتعلّم من الآخرين تلك القيم والمثل ذات النزوع الإنساني : إذ لم يتعلّم أي جيل القدرة على الحب والتعاطف والشغف والعطاء من أي جيل سبقه ولا بدّ لكلّ جيل أن يبدأ من نقطة الشروع ذاتها ليستطيع تعلّم مجمل المثل الإنسانية ، ولم نسمع أن جيلاً ما قد بذل جهداً أقلً عناء في تعلّم هذه المثل من أي جيل سابق له " وهذا هو الدور الفريد و الإبداعي الذي قُدّر للفلسفة النهوض به في كلّ عصر .