الجمال يتعدد أيضاً بتعدد التربية والذوق والحس النقدي.
بشأن الوجوه، يستأثر وجه المرأة بالالتفات وهو الوجه الأكثر جدارة بالاهتمام في المجتمع، كما "يقرر" شارل بودلير، الشاعر الفرنسي المتناقض.
ثمة جمال خارج عن المألوف!
لكن ما "المألوف" أولاً؟
"المألوف" هو الموجود في مختلف شؤون الحياة اليومية للناس، من فنجان القهوة حتى كتاب الفلسفة. وما يخرج عن ذلك فهو "خارج عن المألوف" ولكن "مألوفك" يختلف كما يختلف "مألوف" غيرك.
.. وهكذا "المألوف" الشحيح، الفقير، الخالي من المعنى الضروري للمعرفة، لا يمكن القياس عليه. أو "لا يعوّل عليه" على وفق شيخنا العرفاني محيي الدين بن عربي.
ولأنه شاعر متناقض، عدا قوله بأن الغموض واحد من أهم شروط الجمال، لا يفيدنا بودلير بشيء إذا انتظرنا منه تحليلاً "منطقياً" لفكرة الجمال، وعندما سئل مرة: ما الذي تحبه في تلك المرأة؟ أجاب: أحب ذوقها الرديء!.
ونصيحته في الحب: لا أنصح بالمرأة المثقفة فهي، غالباً، مدعية، ولا بالفنانة التي لا حب في حياتها غير حب الجمهور!.
وفي يومياته، التي ترجمها الشاعر التونسي آدم فتحي، يشير بودلير، مبكراً، قبل المدارس الفنية الحديثة كلها، إلى ضرورة "تشويه" الجامد الذي قال به بعض النقاد التشكيليين بعد ما يقرب القرن: "تحطيم الشكل". ورغم أنه أحد وريثي الأدب الرومانسي الذي لم يطاول ما تبعه من أدب قارب المحنة الوجودية للإنسان حتى مقارنة بالرمزية.
يقول: "يبدو الشيء جامداً ما لم يشُبْهُ قليل من التشويه. لذلك فإن عدم الانتظام، أي اللامتوقع والمفاجئ والمدهش جزء من عناصر الجمال الجوهرية وعلامته المميزة".
"تحطيم الجامد" أو "تشويهه" لم يعد مأثرة فنية، اليوم، إذ بات من المسلمات منذ زمن بعيد، ولكن – للأسف – لم يزل الجامد يتنفس في ثقافتنا العربية المختنقة. في الشعر تحديداً.
أعتقد أن مجتمعات مختنقة ليس بمقدورها أن تصنع ثقافة تتنفس.. ثقافة لم تزل غير قادرة على "تحطيم الجامد".. ولا على "تشويهه" حتى!.
المفارقة المضحكة، بشكل قاسٍ، هي أن القبيح "الجامد" يحطم ويشوه الجميل في ثقافتنا العربية وفنونها، خصوصاً شعرنا العربي.
الجمال والحب والشعر متلازمة ثلاثية عبر الدهور، حتى لو كنت ضد الجمال والحب والشعر، فهات ما عندك لأننا نتوقع أن تأتي بجمال وحب وشعر "ضد المألوف".. من يدري؟
أو لم يقل بودلير بضرورة تحطيم "الجامد"؟.
في ظن الشاعر الرجيم، بودلير، أن العرب أصحاب معجزات (شعوذات) وإلا لما كتب "كان لا بد لمجتمع شكاك أن يرسل روبير هودن إلى العرب كي يصرفهم عن المعجزات"!.(*)
الشاعر الحقيقي ليس محط إعجاب إنما مثار تساؤل، كما أنه ليس "مشعل حرائق" بل حامل مشعل تنوير فكري وتحريض جمالي. إننا وسط الحريق فعلاً، لا تورية ولا مجازاً.
البيئة الثقافية، في أي زمان أو مكان ، لا بد، أن تسم زمان ومكان الثقافة الشخصية للمبدع، حتى جمال "الوجه الجميل"، فوجوه النساء وأجسادهن أثناء عصر النهضة رسمت وفق منظورات تلك الحقبة، وهن نساء ممتلئات الوجوه والأبدان، حتى لو كان الأمر استجابة لأذواق تجار اللوحات الفنية ومقتنيها، لتتبدل المنظورات تدريجاً، عبر الزمن، وبذا لم يعد للجمال معيار واحد، وهذه واحدة من مآثر الفنانين العظام الذي أنقذوا ذوق البشرية من ضجر التكرار.
(*) روبير هودن، فنان ألعاب سحرية فرنسي (1805 – 1871) يعتبر أبا السحر الحديث، وقف ضد المشعوذين الذين يريدون إحاطة ألاعيبهم بهالة عجائبية وخارقة، واعتبرهم غشاشين. أوفدته الحكومة الفرنسية عام 1856 إلى الجزائر لمقاومة نفوذ "الدراويش" و"الأولياء" بتقديم ألعاب تدحض "معجزاتهم" – حسب ترجمة آدم فتحي.
الجمال.. الوجه الجميل مثالاً
[post-views]
نشر في: 28 ديسمبر, 2015: 09:01 م