اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > العرض المسرحي.. بين الأنثرولوجية والمتحفية

العرض المسرحي.. بين الأنثرولوجية والمتحفية

نشر في: 29 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

المسرح كغيره من الفنون والآداب، في مسيرتها التي شهدها التاريخ قد حافظت على بعض عناصرها أو مكوناتها الفنية وبنائها الشكلي، فأصبحت لكل فن أشكال تدل عليه ، فالدراما أو المسرح معروف بأنه فن يتصل بالجماهير أو المتفرجين ، إذ يقدم في مكان معين وفي تاريخ معي

المسرح كغيره من الفنون والآداب، في مسيرتها التي شهدها التاريخ قد حافظت على بعض عناصرها أو مكوناتها الفنية وبنائها الشكلي، فأصبحت لكل فن أشكال تدل عليه ، فالدراما أو المسرح معروف بأنه فن يتصل بالجماهير أو المتفرجين ، إذ يقدم في مكان معين وفي تاريخ معين ولجماهير معينة ، تستجيب ضمن مرحلة تاريخية بذاتها لتذوق جمالي يحمل سمة تلك المرحلة التاريخية.

وفي تاريخ الفن أو الفنون يؤشر الباحثون بأنها عادة ما تخضع إلى  ظروف تنبع منها، وبذلك أصبحت لدينا فنون يمكن أن ترجع إلى حضارة أو تأريخ تدل عليه كاشفة عن الظروف السياسية والاجتماعية التي عايشها النص المسرحي وغيره من الفنون. وهذا ما يشخصه الفيلسوف الأمريكي الجنسية (جون ديوي) ضمن كتابه (الفن خبرة) مشيراً إلى أن هنالك فنونا لكل حضارة تعبر عن مكونات النفس البشرية.
ويجد ( ديوي ) ان كل الفنون التي تظهر في حقبة أو فترة تاريخية ينظر إليها في وقتها بعدم التقدير والإحترام او تعزل بعيداً عن الجماهير. أما اليوم فإن تلك (التحف) أصبحت اليوم في متناول المشاهدين أو المتلقين فهي رغم متحفيتها فإنها تتقدم على الكثير من الأعمال الفنية الأخرى .
فالعمل الفني الذي تم إنتاجه في الماضي وفي حضارة ما يقدم بُعده الفني وفق سمته الجمالية، أما ذلك العمل الذي نتذوقه في الوقت الحاضر فإنه يدخل ضمن الآلات التي تؤدي إلى اختفاء حرية الاختيار التي كان يتمتع بها الصانع الماهر الذي كان يعمل بيديه.
إن الفنون تتقارب مع بقية أطراف المعرفة الأخرى داخل الحضارات ومتاحفها، فهناك عناصر منتهية وأخرى باقية في أية حضارة ، والعناصر الباقية هذه ليست منفصلة، بل هي (دالات) لعدد كبير من الأحداث المنتهية أو التاريخية، حيث ان هذه الدالات تنتظم بشكل صور ومعانٍ، والعقل البشري هو الذي يصور تلك الدالات لكي يحقق المحافظة على كنوز الحضارات الفنية .
ويقوم أفراد بحمل تلك الأفكار التاريخية ويورثونها الواحد تلو الآخر، فإن الآثار التي حملت تلك الأفكار والفنون والأشكال أو التي تلقت تلك المعاني تظل باقية أو تصبح جزءاً من البيئة .
ويعد الفن أكثر الوسائل/الفنون في التواصل مع الماضي ، فالتاريخ الفني لا يزال يحتفل بأمجاد التاريخ الإغريقي والروماني  بواسطة تلك الفنون التي خلفتها الإنسانية جمعاء . وكذلك الحال بالنسبة إلى مصر القديمة التي قدمت عبر تأريخها مجموعة من الآثار والمعابد والآداب الفرعونية وحفظتها المتاحف . وبذلك فإن استمرار الحضارة ،أية حضارة، وبقاءها يتم عبر السمة ( المتحفية ) التي تحملها بواسطة المحافظة على ما أنجز من فنون لتكون في حالة مقارنة بين الماضي والحاضر أو بين طبيعة الفنون الماضية والفنون الحديثة.
إن استمرار الثقافة في انتقالها من حضارة إلى أخرى أو بقائها داخل ثقافة بعينها إنما هو مشروط بالفن أكثر مما هو مشروط بأي شيء آخر ، فطروادة مثلاً بالنسبة إلى الوقت الحاضر انما تعيش في النص والموضوعات الفنية التي اكتشفت في أطلالها والحضارة ، أية حضارة ، هي آثارها الفنية من مسرح وسينما وسرد، والتي كانت آلهة الوثنيين وطقوسهم قد انقضت إلى غير رجعة ، وإلا فإنها مع ذلك لا تزال باقية إلى اليوم في الطقوس والأعياد، ولو اننا وضعنا جانباً تلك الطقوس والشعائر ، وما نتج عنها من تمثيل صامت ورقص وغناء ودراما ، ولو أننا استبعدنا الرقص والغناء وما يصاحبهما من آلالات موسيقية لوجدنا الأواني والأدوات المستعملة في الحياة اليومية ، لكانت أحداث الماضي السحيق قد غاصت الآن في أبعاد النسيان .
وفيما يخص فن المسرح فإن هنالك الكثير فيما كان سائداً في الحضارات وممارسة الإنسان في عهود بعيدة قد حضر ضمن أبعاد ووجهات نظر بعض المخرجين .
فطقوس وشعائر الأحياء والموتى وأماكن الاحتفالات السنوية يمكن أن تكون عنصراً مهماً من عناصر العرض المسرحي في زماننا الماضي ، إذ حملت عروض الاحتفال أو ما يسمى بـ ( الكرنفال ) ، حملت مشاهد متشابهة وتلك الطقوس ، وهو ما اعتمده بعض المخرجين في توظيف تلك الاحتفالات الدينية، أو السنوية وجعلها في موقع فني، ولدى المخرج الإيطالي (أوجينيا باربا) حملت الحركات والإشارات والرقصات بعداً ( متحفياً ) أخذه من ذاكرة المتحف عبر رحلاته إلى حضارة الشرق، وقد اعتمد (باربا) على الكثير من النصوص في عروضه المسرحية وفي مسرحه (الثالث) حيث انفتح على الحضارات وأفكارها وطقوسها. ما يعني أن التاريخ الإنساني أو تاريخ العرض المسرحي له ماضٍ واحد باعتباره معبراً عن الإنسان في كل زمان ومكان .
واعتمد ( باربا ) أهم سمة في عروضه المسرحية حينما دعا مجموعة ممثلين من بلدان وقوميات أخرى مختلفة ليكونوا معبرين عن حياة كل حضارة أو ثقافة ، ما جعل العرض المسرحي يحمل رموزاً وأبعاد تاريخ البشرية جميعاً ، وبذلك يقدم بعداً (متحفياً) من خلال التعبير عن السمة الاحتفالية ، من خلال النزول إلى مكان مثل الشارع ليعرض فيه ، في مكان مثل السيرك ، ما جعل عروضه قريبة إلى أمكنة تاريخية كانت تقام فيها الطقوس والعبادات في الحضارات القديمة والحركات البدائية والأبعاد الجسدية .
وجمع (باربا) في بعض عروضه بين أفكار الحضارات الشرقية والحضارة الغربية من حيث الشكل الفني إذ سّمى مسرحه بـ ( المسرح الثالث ) كونه قد احتوى على طقوس وفنون المسرح السحرية، وبذلك فقد جمع بين متحفيات الشرق والغرب معطياً خصوصية كل منها، وفيما يخص النص فإنه أخذ بالنصوص التي حملت شكل ومضمون الأسطورة والنصوص الشفاهية غير المكتوبة .
أما المخرج الإنكليزي بيتر بروك ( 1925 ....) فإنه يشخص تاريخ المسرح بأربعة أنماط مسرحية ، حملت بعض سمات ( المتحفية ) مثل :
1. المسرح المميت : وفيه يكون العرض معتمداً على صياغات قديمة في الإخراج ، وفيه يأخذ بالمؤثرات القديمة والمناهج القديمة وتكون المسرحية ذات بداية ونهاية معروفة لدى المشاهدين .
2. أما المسرح المقدس : فهو مسرح له ما يشابهه في الطقس الاحتفالي البدائي والأسطوري وفيه يتم البحث عن التقليد في الطقوس .
3. المسرح الخشن : حيث أخذ متحفية المسرح الخشن باعتباره مسرحاً تجتمع فيه فضاءة جمهرة من العامة يحدث شكل له سمة الأداء وتستجيب للحدث بما يقابلها من الجمهور القديم .
4. أما المسرح التلقائي: فهو جامع لشخصيات المسرح المقدس والمسرح الخشن.
ويجمع ( بروك ) بعض آرائه التي تخص العرض المسرحي ببعض العروض في بلدان آسيا .
فقد استفاد ( بروك ) من مادة التراث لبعض الشعوب الآسيوية وما اعتمدته من تعابير شخص الأداء المسرحي مثل ما عرف في مسرح الكابوكي والنو وأوبرا بكين .
وفي هذه العروض هنالك جملة تقاليد في شكل العرض له طابع ثابت يعاد تقديمه في كل عرض ومنها الأداء السحري للممثل، والملابس والديكور والنصوص وفضاء العرض .
والعرض المسرحي يكون في العموم مجموعة من التقاليد المعروفة لدى المتلقي ، وذلك ما يقارب عروض المسرح الشرقي مع مفهوم (المتحفية) نحو تأكيدها لكل ما هو ثابت ومستقر من أشكال وأداء مسرحي .
وشهدت مسارح الشرق التزاماً باصول ومقومات المسرح الشرقي في تأكيد هويتها الفنية والجمالية بعيداً عن هيمنة المسرح الغربي ونظرياته الخاصة بالنص او العرض المسرحي عموماً وشمل هذا أغلب عناصر العرض المسرحي من نص وفضاء وتمثيل وازياء واضاءة, فالاداء التمثيلي في مسرح الشرق له متحفيته في مسرح النو والكابوكي وهو نوع من الحركات والاشارات واوضاع الجسم وتنقلاته.
كما يعد (تاداشي سوزوكي) واحداً من المنظرين لأساليب التمثيل الشرقي وخاصة الياباني حين احيا مجموعة من العادات والاعراف الخاصة بطقوس الاحتفال والرقص وافعال الوقوف والمشي, وما يمنحه ذلك للممثل من طاقة داخلية وباطنية تساعده على اداء الفعل في الفضاء المسرحي. اذ يرى بأن هذه الفكرة وما تولده من احساس ((ضروري للمؤدين على المسرح حتى اليوم فهذا المتخيل بان الطاقة التي تمنح القوة لجسد الشخص يمكن استقبالها من خلال الاحترام فهو في مجمله طبيعي)).
واحتفظ المسرح الافريقي بخاصيته في الاداء والرقص والفضاء والاتصال مع المتلقي وفق متحفية تاريخية تخص تاريخ الانسان الافريقي ذاته وذلك ما سيحفظ للمسرح الزنجي الافريقي قوته الدرامية وهو الطريق نفسه الذي يسير فيه المسرح عموماً والذي يستخدم الاشكال المختلفة للتعبير المسرحي, ويستغل الموروثات الثقافية وهكذا, سيعطي للمسرح الغربي درساً حول تأثير القوالب القديمة المسرحية)).
وفيما يخص المسرح العربي فقد تمت الإشارة الى ما يحمله التراث العربي الاسلامي من مظاهر تخص التمثيل والاداء ليتم توظيفها في العروض المسرحية لدى بعض الجماعات ومنها مسرح (الحكواتي) في لبنان والمسرح (الاحتفالي) في المغرب وغيرهما, وفيها تتم قراءة التراث والتاريخ الادبي والشعبي ودفعه الى فضاء المسرح ما يعده مسرحاً عربياً يخص الثقافة العربية ذاتها من حيث النص والتمثيل والفضاء وتلقي العرض المسرحي, فكانت الدعوة ((إلى استخدام الاشكال التراثية المحفورة في الذاكرة الجمعية والتي ترجع بنا الى الجذور الأولى المتمثلة بحلقة الراوي والذي ادى دوراً مهماً في ولادة التراث وتكوين موطن الخيال عند شعبنا العربي)).
وعمدت جماعة المسرح (الاحتفالي) إلى التاريخ العربي الإسلامي في توظيفها لمجموعة من الحكايات والأفعال والرقصات والنصوص الغنائية التي أنتجتها الثقافية العربية الإسلامية لتكون ((الاحتفالية, ألعاب خيال الظل, والقرة قوز والحكواتي وحركات الرقص والإيماء وأنواع الاحتفالية الاجتماعية والدينية والرياضية ومهرجانات القبائل التقليدية أشكالا بدائية لفنون المسرح في صورته المعاصرة)). كما يراها الناقد (محمد أديب السلاوي).
اما في مسرحنا العراقي فقد ظهرت بعد عام 2003 ملامح مسرح ما يسمى بـ(التشبيه) في عاشوراء وفيها يتم تمثيل واقعة كربلاء في شكل مسرحي لها سماته من حيث المكان والأحداث وطبيعة المتلقي, ويرى الباحث (ابراهيم الحيدري), بأن هناك ظاهرة مسرحية شعبية تدعى (الشبيه) او (التشابيه) وهي ظاهرة مسرحية قائمة بذاتها قد تشكلت تاريخياً وبتساوق مع المعطيات والمؤثرات الدينية والاجتماعية – السياسية ومن دون مؤثرات المسرح الكلاسيكي والحديث وتعود في أصولها إلى مقتل الإمام الحسين في كربلاء.
وبذلك فان مظاهر المسرح الحديث لها مرجعياتها الفنية في ما حملة التاريخ الإنساني من عادات وتقاليد ونصوص وأشكال التعبير لها حضورها في متاحف كل ثقافة معبرة عن سماتها التي تفهم بها المسرح وفنونه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram